د. حنان حسن بلخي
TT

جائحة القرن

هناك ارتباط وثيق بين الصحة العامة والأمن الدولي. تمكّنت جائحة القرن من أن تفتك بالدول العظمى بقدر ما أثّرت سلباً على الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل. ووضح للجميع أن التجهز والتأهب لهذه الجائحة كان، وما زال، في مرحلة الحضانة.
في الأشهر الستة الأولى من الجائحة، قدمت دول مجموعة العشرين عشرة تريليونات دولار لمعادلة الخسائر الاقتصادية الناتجة في دولها. ونوّه أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، فيما يخص «سارس كوف - 2» إلى أن «الوباء يشكل تهديداً كبيراً لصون السلم والأمن الدوليين... وقد يؤدي الوباء إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية والعنف الذي من شأنه أن يقوّض قدرتنا على مكافحة المرض بشكل كبير». ومن الشهور الأولى للجائحة، يظل عالقاً في الأذهان خليط من المشاهد المخيفة. من أهمها انهيار في الأنظمة الصحية وتوقف التجارة والملاحة الدولية. يعود ذلك إلى حد كبير إلى أن كثيراً من الدول فشلت في سرعة الاعتراف بالوباء وكانت استجابتها متأخرة أو ضعيفة في تطبيق التدخلات الصحية اللازمة.
كذلك، شهدنا في أثناء هذه الجائحة اختلاف المجتمعات في تقبلها تطبيق حلول لهذا الوباء فيها، منهم من التزم ونفّذ الكثير من الالتزام بأسس الصحة العامة، بينما استسلم الكثير لمصادر أنباء زائفة غير موثوق بها.
راقبنا كذلك المنحنيات الوبائية في جميع الدول على أشكالها المختلفة، منتظرين الانحسار التام وعودة الحياة إلى طبيعتها. كذلك تابعنا، وبكل ألم، الأرقام اليومية المعلَنة للحالات والوفيات المصاحبة، وتشارك الناس في جميع أنحاء العالم وبطريقة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، قيوداً اجتماعية منعتهم من زيارة المريض، أو إقامة مراسم العزاء على سبيل المثال، وظل شبح الجائحة يسيطر على تعاملاتنا اليومية التي لطالما أخذناها كأمور مسلَّم بها من سفر، وزيارات، واجتماعات، واحتفالات وغيرها.
من أكبر الدروس المستقاة من هذه الجائحة هو أن دور رؤساء الدول كان له الأثر الأكبر في تقويض الجائحة في بلد ما. لجأ الكثير من القادة إلى خبراء الصحة العامة التابعة للمؤسسات الصحية في بلدانهم لإرشادهم حول كيفية إدارة هذا الوباء، وبالتالي الاعتماد على إرشادات مستندة إلى أدلة علمية إلى أقصى درجة ممكنة، مع العلم أن التعامل مع فيروس ناشئ يعني التعامل مع الكثير من المجهول: من المعرفة يقيناً ما أصول أو مصدر الفيروس، وكيفية اكتساب العدوى، والأعراض الأولية والأعراض طويلة المدى، والكثير من الشكوك والأساطير التي انتشرت بسرعة انتشار الوباء. كذلك حقيقة أنه لم تكن هناك علاجات أو لقاحات معروفة أو متاحة خلال السنة الأولى من الجائحة. فقد وجب على برامج الصحة العامة ومن يدير الوباء محلياً أن يعتمد على الخبرة العلمية والعملية في إدارة جائحات سابقة، وإبداء تعاون كبير مع الكثير من الجهات الحكومية وغير الحكومية، ودعم المجتمع بأَسْرِه.
تعلمنا أيضاً أن التعاون العلمي العالمي ممكن وقادر على تسريع الوصول إلى حلول جذرية لمعالجة معضلات صحية، فقط إذا أردنا هذا التعاون وسَعَيْنا إليه. شهدنا تعاوناً عالمياً غير مسبوق لتطوير اللقاح، حيث تم تطوير أكثر من مائتي لقاح مرشح، وصل عدد قليل منها إلى خط النهاية وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الاستجابة للوباء، أو ما تُعرف بتدخلات الصحة العامة التي تكوّن عناصر الاستجابة العالمية والدولية لـ«كوفيد - 19».
لكن ما نصبو إليه اليوم هو أن نرى تعاوناً عالمياً في إيصال هذه الأمصال إلى من هم أكثر حاجة إليها بسبب خطر الفيروس على حياتهم، وحفاظاً على المؤسسات الصحية حول العالم من الانهيار بسبب تكدس المرضى أو بسبب إصابة أعداد كبيرة من القائمين على الرعاية الصحية، مما يؤدي إلى نقص في الكادر الصحي. بات واضحاً اليوم أن الإيثار الدولي فيما يخص التطعيمات من أكبر تحديات مواجهة الجائحة والتي ستضع حكومات الدول المنتجة والمصنّعة للتطعيمات على المحك.
ولكن ما الصحة العامة، وما أبعادها، وكيف ترتبط بالأمن القومي والأمن العالمي، وهل كان بالإمكان تفادي هذه الجائحة أو التقليل من آثارها؟ أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن، أسئلة لم أتذكر أن درستها في منهج من مناهج كلية الطب ولا في أثناء التخصص في طب الأطفال ولا في أثناء التخصص الدقيق في الأمراض المُعدية، شيء أستغربه اليوم لأن مسبب الجائحة هو مجرّد فيروس، يؤدي إلى التهابات تختلف في شدتها من فيروس إلى آخر ومن مريض إلى آخر، ولكن في نفس الوقت لبعض هذه الفيروسات القدرة على الإطاحة بدول. وللبحث صلة.
* خبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة