د. حنان حسن بلخي
TT

استثمار المليارات من أجل ادّخار التريليونات

شُكِّلَت لجنة مراجعة أداء اللوائح الصحية الدولية في سبتمبر (أيلول) 2020 لتقييم الاستجابة للجائحة، كما ينص دستور اللوائح. وأصدرت اللجنة، في أبريل (نيسان) 2021، 40 توصية لتُنفَّذ دونما أي تأخير.
تشبه هذه التوصيات إلى حدّ كبير توصيات لجان مراجعة أداء اللوائح الصحية الدولية الثلاث السابقة، والتي كنت عضوة في إحداها. وكان واضحاً من بدايات الجائحة أن التقدم المحرز في تنفيذ التوصيات السابقة من الدول الأعضاء بطيئة وغير متساوية بين الدول، عدا عن عدم تناول إعادة تأهيل الحوكمة العالمية في التعامل مع الأوبئة. وقد أسهبت في مقالة سابقة عن مَواطن الضعف والقصور في اللوائح الصحية العالمية، لن أتطرق إليها اليوم. ولكن حجم وتداعيات جائحة «سارس - كوف - 2» لم يسبق لها مثيل، وقامت منظمة الصحة العالمية للمرة الأولى بدعم تشكيل لجنة مستقلة معنية بتقييم التأهب والاستجابة لجائحة «كوفيد - 19» على المستوى العالمي والمؤسسي في مايو (أيار) 2020. اتّخذت اللجنة عنوان «الحاجة الملحة لاستثمار المليارات من أجل ادخار تريليونات الخسائر الاقتصادية والبشرية»، واعتمدت عدة محاور أساسية في توصياتها النهائية ركزت على أهمية الحوكمة العالمية للأوبئة ودور المنظمات وتقوية دور منظمة الصحة العالمية الريادية كعنصر أساسي ومركزي للصحة العالمية، إضافةً إلى أهمية إيلاء الدول أهمية كبرى لتقوية الاستعداد والتأهب للأمراض السارية، بل القيام بتدريبات محاكاة لمعرفة الاستعداد الحقيقي للدول في التعامل مع جائحة أخرى وتوضيح الثغرات وإيجاد الحلول المُسبَقة. إضافةً إلى ذلك، سلّط التقرير الضوء على ثغرات تمويل الاستجابة للأوبئة على المستويين الدولي والعالمي.
أما تقرير صندوق النقد الدولي، فقدّر الخسائر الناجمة من الجائحة في سنتها الأولى بـ9 تريليونات دولار أميركي، والتي يمكن أن تصل إلى 22 تريليون دولار بحلول 2025 إذا لم تتم السيطرة على الجائحة. وأشار التقرير إلى تفاصيل احتمالية إعادة تصنيف ما بين 88 و115 مليون شخص تحت خط الفقر المدقع، بالذات مَن كان عمله خارج القطاعات الرسمية أو الخدمية. كما ذكّر الصندوق بأن الأكثر عُرضة للفقر هم الفئات الأكثر تهميشاً من النساء والأطفال، حيث فرضت الجائحة على ما يقارب 1.6 مليار طفل في سن المدرسة إخلاء مقاعدهم الدراسية.
تسببت الجائحة في عدد كبير من الوفيات، وإن كانت الإحصائيات غير مكتملة من كثير من الدول، ولكن يبدو أنها أكثر وطأة على الرجال. العدد الأكبر من النساء فقدن الدَخْل وسُبُلَ العيش مما أدى إلى زيادة في تقارير العنف الأُسري ومواجهة صعوبات المعيشة. وإذا عددنا استقرار الأفراد ومن تمّ الأسرة التي تشكل نواة المجتمع من أهم عوامل استقرار الدول فإنه، بلا شك، ستكون هناك تداعيات سلبية لجائحة «كوفيد» على الأمن القومي.
الخسائر الناتجة من الأوبئة والأمراض المُعدية ليست وليدة البارحة، وليست منحصرة في أوبئة بحجم «سارس - كوف - 2» ولا في الدول الفقيرة. تداعيات مرض جنون البقر، التي ظهرت في بريطانيا، أجبرت دول أوروبا على وقف استيراد منتجات البقر البريطانية، ما تسبب في خسائر بريطانية تزيد على 10 مليارات دولار أميركي. وباء الكوليرا الذي ضرب دولة بيرو بين سنتي 1991 و1996 تسبب في 600.000 ألف حالة مرضية و4.500 ألف وفاة، وانتشر خارج الحدود إلى دول مجاورة. تضررت بيرو من جراء هذا الوباء بخسائر مادية تصل إلى 700 مليون دولار.
ولأن الاستثمار في الصحة في أغلبية الدول يتبوأ درجة ثالثة أو رابعة مقارنةً بالأولويات السياسية الأخرى مثل الجيش، والاقتصاد والسياحة، فإن الالتزام بخريطة الطريق المقترحة من اللجنة المستقلة المعنية بتقييم التأهب والاستجابة لجائحة «كوفيد - 19»، سيكون مهماً لضمان مستقبل أكثر استعداداً لمواجهة الجائحات العالمية.
على مدار العقدين السابقين من خبرتي في التعامل مع الأوبئة والأمراض المعدية وجدت أن إيجاد بنية تحتية مخبرية في جميع الدول قادرة على دعم تشخيص الأمراض المعدية وتدعم قواعد بيانية ذات حساسية عالية للمتلازمات الوبائية المختلفة، مدعومة بنظام حوكمة عالمي مقبول من جميع الدول، تعد من أهم التغيرات الملحّة أمامنا اليوم لتجنب جائحة كارثية أخرى في المستقبل. السؤال هنا: هل ستعطي الدول هذه التوصيات الاهتمام الكافي؟ بقي أن نرى... وللبحث صلة.
- خبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة