توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

هل «تغوغلون» من المهد إلى اللحد؟

غرضي من هذه الكتابة هو دعوة وزارة التعليم ومديري المدارس، لاعتماد التدوين في برنامجهم التعليمي للمراحل كافة. مبرر الفكرة هو اعتقادي أنَّ التدوين عاملٌ أساسيٌّ في انتشار العلم، وتطوره في المجتمعات المتقدمة.
وقد لاحظت بكل أسفٍ أنَّ عامتَنا وعامةَ أبنائِنا لا يمارسون الكتابة، لا في مجال الأدب ولا العلم والتقنية، ولا حتى في المراسلة وتبادل الأفكار، بل حتى في حاجاتهم الحياتية اليومية، مثل تسجيل مواعيدهم وتدوين مداخيلهم ومصروفاتهم، فضلاً عن شوارد الأفكار التي تراود كلاً منا، ثم تتبخَّر لقلة الاكتراث، وفضلاً على التجارب التي تمرُّ بنا، والأسئلة التي تدور في أذهاننا، وهذه كلُّها تُشكّل المادةَ الخام للمعرفة والعلم.
الذين درسوا في مجتمع غربي أو عاشوا فيه، لاحظوا بالتأكيد أنَّ الكتابة نشاطٌ شبهُ يوميٍّ لدى غالبية الناس، حتى للمراهقين والشباب. ولا أعني الكتابة الرصينة، بل التدوين بشكل عام. هذا ليس مبالغة. إن أردتَ أن تتحقَّقَ من صحة هذا الكلام، فاسأل نفسَك ومن حولك: ماذا تفعلون إذا احتجتم لمعلومة عن بلد أو مسألة تاريخية، أو واجهتم مشكلة في الكومبيوتر أو السيارة أو كهرباء البيت أو الحديقة... الخ؟ أليس مقصدُكم الأولُ هو محركاتِ البحث على الإنترنت مثل «غوغل» وإخوته؟
- ما الذي يبحث عنه «غوغل» وإلى أين يأخذكم، وما الذي يدور في بالكم وأنتم تبحثون؟ أليس الاعتقاد أنَّ شخصاً ما، واجه السؤال نفسَه من قبل، فبحث عن إجابته، فدونها ونشرها على الإنترنت. وهكذا أسهم في نشر العلم الذي أستفيد منه أنا، وتستفيد منه أنت، ويستفيد منه ملايين الناس الآخرين؟ تخيل الآن لو أنَّ الذي واجه ذلك السؤال، اكتفى بما حصل عليه من معرفة ولم ينشره، فهل كانت هذه المعرفة ستصل إليك أو إلى أو إلى الآلاف غيرنا؟
أردتُ بهذا الكلام الذي يعرفه جميعكم، التمهيد لمعاتبة الزملاء المؤهلين تماماً للكتابة، أي خريجي الدراسات العليا، من العاملين والمتقاعدين، والذين يعلمون أهمية الكتابة، لكنَّهم لا يساهمون إلا بالقليل جداً في نشر المعرفة، من خلال الكتابة اليومية أو الكتابة العلمية المركزة. في سنة 2019 مثلاً كان عدد أعضاء هيئات التدريس في الجامعات الحكومية في المملكة 79.6 ألف، بينهم 33 ألفاً يحملون شهادة الدكتوراه. فهل لدينا 79 ألف مقالة علمية سنوياً، أو حتى 33 ألفاً، أي ما يعادل مقالة علمية واحدة سنوياً لكل أستاذ؟
حسناً. لا يقع اللوم على الأساتذة وحدهم. أظنُّ أنَّ المشكلة أبعد من هذا. دعنا نعود إلى تجربة المجتمعات الغربية، التي تهتم بتعويد الأطفال منذ السنوات الأولى للتعليم على القراءة والتدوين، ثم تسجيل اليوميات، حتى تحوَّلت القراءة والكتابة إلى عادة يومية مثل الأكل واللهو. أعلم أيضاً أنَّ طلاب المدارس الثانوية كافة، يُكلَّفون البحثَ وتدوينَ النتائج. نعلم ويعلم الأساتذة أنَّ هذه لن تكون بحوثاً متقنة، لكن المراد هو تدريب الطلبة على البحث وتنظيم الأفكار وتدوينها. أمَّا البحوث المتقنة والكتابات المؤثرة فسوف يأتي وقتها، في الجامعة أو بعدها.
أريد الانتهاء بملاحظة شخصية على السلوك الوظيفي لخريج الجامعات المحلية والأجنبية. تتلخَّص هذه الملاحظة في استعداد الثاني للبحث والقراءة، حتى يتوصل إلى حلول لما يواجه من مشكلات. أمَّا خريج الجامعة المحلية فهو يفضل السؤال من هذا وذاك، حتى يطمئن إلى أحد الأجوبة. هل ترون هذا دليلاً على الميل للثقافة الشفهية... وهل له علاقة بالميل للقراءة والكتابة؟
هل نطمع في أنْ تهتمَّ وزارة التعليم بهذا الأمر، الذي له علاقة جوهرية بمستوى العلم في نظامنا التعليمي خاصة، وفي مجتمعنا بشكل عام... هل يتقبَّل الزملاءُ الأكاديميون ذلك العتاب ويتَّجهون للمساهمة المطلوبة؟