يونـس سليمـاني
صحافي جزائري يشرف على الشؤون الدولية في «الشرق الأوسط»
TT

عودة «الواقعية السياسية»

الحرب الأوكرانية الحالية حدث دولي كبير تطال تداعياته مجالات السياسة والاقتصاد كما الأفكار المؤطرة للمشهد، على نحو يستحضر مناخ الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن الماضي. خلال تلك الحربين التاريخيتين، برزت نظرية «الواقعية السياسية» Political Realism نتيجة لفشل «التيار المثالي» Idealism في تفسير التطوّرات التي أدت إلى اندلاعهما ومقتل عشرات ملايين الأشخاص.
على مدى عقود بعد الحربين، هيمنت أفكار «الآباء الواقعيين» من أمثال إدوارد هاليت كار وهانس مورغنثاو ولاحقاً كينيث والتز وغيرهم؛ نظريات تدور حول مركزية الدولة وأهمية القوة والأمن وعدم وجود مجال للأخلاق فيهما، إضافة إلى أفكار أخرى تتعلق بالأنانية والفوضوية وما شابه.
سادت تلك الأفكار مجتمع دارسي العلاقات الدولية، فترة من الزمن، إلى أن استتبّ الأمن في أوروبا وازدهر التعاون. في أواخر خمسينيّات القرن، انطلق قطار البناء الأوروبي الحديث، عندما اجتمعت ست دول أوروبية في روما وقررت بدء التكامل من قطاع الفحم. توسّع الاندماج والتحقت دول كثيرة، ضمن موجات عدة، وبدأ المنظّرون يَرَون العالم من زوايا جديدة. في سبعينيّات وثمانينيّات القرن، ظهر «الليبراليون»، على غرار روبرت كيوهان وجوزيف ناي، وصاروا يشاهدون العالم من أعين المؤسسات والدبلوماسية والتعاون والاعتماد الاقتصادي المتبادل Interdependence وغير ذلك. برزت «النظرية الليبرالية» Liberalism بديلاً قوياً لنظرية «الواقعية السياسية».
تبارزت «الواقعية» و«الليبرالية» وتفرّعاتهما، طيلة عقود الحرب الباردة، إلى أن جاء موعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيّات القرن، وانتقل العالم حينها من «الثنائية القطبية» إلى «الأحادية القطبية». سقط «جدار برلين» ومعه «حلف وارسو»، وتفكّك المعسكر الشرقي، بما فيه الاتحاد اليوغوسلافي، كقطع الدومينو. بدأت دول أوروبا الشرقية تلتحق بالمؤسسات الغربية وكانت الأولوية للاتحاد الأوروبي، أكثر من حلف شمال الأطلسي، لما حمله التكتل السياسي من مزايا كثيرة تعود بالنفع على الإنسان العادي وحياته اليومية. برزت أوروبا الغربية المتمدّدة، بمحورها الرئيس «برلين – باريس»، مشروعاً سياسياً كبيراً، إلى درجة دفعت المحور الأنغلو - ساكسوني الحليف (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة) إلى التوجّس وربما السعي لإضعاف المشروع. واشنطن ولندن سعتا - من دون إعلان صريح - لإضعاف الاتحاد الأوروبي من خلال تشجيع توسيعه شرقاً. وفعلاً، تمدّد التكتل كثيراً إلى الدرجة التي بات معها ضعيفاً مثلما يلاحظه الجميع اليوم.
في مقابل التوسّع الأوروبي وبالتالي وأد مشروع «الولايات المتحدة الأوروبية»، برزت تحديّات عالمية أخرى، في مناطق جغرافية قريبة، مثل الإرهاب ثم «الربيع العربي» وما استتبعه جزئياً من موجات لجوء. قدمت تلك التطورات مبررات أكثر لبروز الشعبوية السياسية في الغرب وصعود قيادات يمينية متطرفة على غرار فيكتور أوربان في المجر ودونالد ترمب في الولايات المتحدة. «الترمبية» جسّدت عودة الأفكار القومية في الغرب وأنتجت فكرة «أميركا أولاً» ثم الانسحاب من المؤسسات العالمية (منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ) وبالتالي تضاءل العمل متعدد الأطراف في العالم. العوامل التي جلبت «الترمبية» أسهمت أيضاً في دفع البريطانيين إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (ترمب كان أكبر داعم لـ«بريكست») وبدأت مفاهيم التكامل والتعاون تتقلص أكثر فأكثر. ورغم محاولة بايدن إصلاح الضرر على مدى السنة الماضية فإن النتائج لا تزال هزيلة.
في الجهة الأخرى من العالم، تمكّن بوتين، منذ تسلّمه الزعامة مطلع الألفية، من إعادة الهيبة والقوة لبلده، الوريث الرئيس للاتحاد السوفياتي، وسار بروسيا للعب أدوار عسكرية خارجية، للمرة الأولى منذ هزيمتها النكراء في أفغانسان وانسحابها منها عام ١٩٩٠. الأدوار الخارجية لروسيا بدت فوضوية إلى حد ما؛ تدخلٌ في سوريا لمنع انهيارها ووقف مد «الربيع العربي» ثم في ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى عبر ميليشيات غير نظامية (فاغنر) لا تُحمّلها أي مسؤولية قانونية. ثم جاء تدخلها الأول في أوكرانيا عام ٢٠١٤ والثاني عام ٢٠٢٢. التدخل الأخير هو الأخطر لأنه شكّل عودة عملانية لمواجهة عسكرية محتملة مع الغرب وربما مدمّرة. التدخل الروسي العسكري الحالي، وما سبقه في سوريا وأفريقيا، بات يشكل حالة متصاعدة تهدد بعودة الحروب إلى أوروبا.
وحتى رد الفعل الغربي لم يخل من «ثورة سلوكية». لِننظر إلى المدى الذي بلغته تلك الإجراءات؛ شاهَدَ الغربُ روسيا تستخدم الطائرات والدبابات فراح هو يستخدم «الاعتماد الاقتصادي المتبادل» سلاحاً، بطريقة غير مسبوقة على الإطلاق، وجعل الأمن الطاقوي والغذائي للعالم كله رهينة.
مجموعة أحداث متتالية، بدءاً بضعف الاتحاد الأوروبي وتقلّص التكامل وبروز تحدياّت عودة الحروب إلى أوروبا والتلويح باستخدام أسلحة الدمار، كلها باتت تنذر بعودة «الواقعية السياسية»، وتُسائل صلاحية «الليبرالية» و«النيو-ليبرالية» لتفسير الحالة الراهنة، على رغم أن هذه الأفكار الأخيرة البراقة ازدهرت خلال العقود القليلة الماضية وخالها البعض «نظريات نهاية التاريخ»!
فعلاً، دوام الحال من المحال، وهذا ينطبق على سلوك الأفراد والدول كما النظريات التي تؤطر فهم تلك السلوكيات.