سيهانوك ديبو
عضو رئاسة «مجلس سوريا الديمقراطي»
TT

البناء على التاريخ العربي ـ الكردي المشترك

أطلّ عصر الدولة القومية في الشرق الأوسط من دون ممهدات وأدنى شروط تحوّل موضوعي وذاتي لها، إذ لم تنصف خرائط سايكس - بيكو شعوب المنطقة، وجانبت معاهدة لوزان 1923 تطلعات شعوبها، خصوصاً حيال الشعبين العربي والكردي؛ الأول الذي تجزأ إلى 22 دولة والثاني انقسم على أربع دول.
لقد جانبت الدولة القومية المركزية حقوق العرب والكرد مرتين: حين وضعهما في حال انقسام كامل؛ ومرة أخرى حين استبدت بها آيديولوجيات ضيقة كانت السبب الأساسي وراء كل هذا الخراب واستجلاب أو تمهيد كل ظاهرة غريبة عن واقع الشرق الأوسط من ضمنها «داعش».
صحيح أن «داعش» انتهى من الميدان والجغرافيا بعد معركة الباغوز شمال شرقي سوريا في مارس (آذار) 2019 على أيدي قوات سوريا الديمقراطية (الكردية العربية السريان آشورية) المدعومة من التحالف الدولي بقيادة أميركا ضد الإرهاب. وهنا يمكن اعتبار معركة الباغوز خاتمة لسلسلة من معارك قامت بها قوات سوريا الديمقراطية على المستوى المحلي السوري، وفي الوقت نفسه ما جرى من إنهاء التنظيم في العراق بدءاً من شنغال - سنجار 2014 وحتى معركة تحرير الموصل 9 يوليو (تموز) 2017.
رغم ذلك، فإن «داعش» لم ينتهِ وفق ما أثبتته وقائع هجوم خلايا وعناصر التنظيم لسجن الصناعة في الحسكة، الذي يحتوي على نحو 5 آلاف من مقاتلي «داعش» من 55 دولة إقليمية وعالمية بمدينة الحسكة السورية في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي.
ما بعد أحداث سجن الصناعة، يمكن القول إن المرحلة التي نعيشها هي مرحلة فك لغم «داعش»، الفكر الإرهابي، وهي الأخطر من المرحلة «الداعشية» السابقة التي يسميها منظروها: مرحلة البقاء والتمدد من بعد مرحلة التوحش، ومرحلة فك اللغم لن تكون بالقصيرة ويلزمها إمكانات متعددة ومن مختلف الجوانب أهمها دعم «الإدارة الذاتية» في شمال وشرق سوريا، وتقوية بنيتها وتطويرها.
من هنا، يجب القول إن حل الأزمة السورية معادلة تتألف من شطرين متصلين: القطع على المنابع الداعمة للإرهاب والفكر - أو الأفكار التي تولدها وتمهِّد لها كمثال «داعش» و«جبهة النصرة» المصنفين ضمن قوائم الإرهاب اللذين يسيطران بشكل فعلي على المناطق التي احتلتها تركيا من شمال سوريا وتحت حجج وأباطيل واهمة، ويؤكد مقتل أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم القرشي ومئات التقارير التي تثبت ذلك أن هذه المنطقة المحتلة تعد بؤرة الخطر المهدد للمنطقة كلها.
أما الشطر الآخر، فهو التغيير الذي يلزم السوريين والذي رغم جوانب كثيرة لهذا التغيير فإن أهمها متمثلة بالقطع - مرة أخرى - في إعادة إنتاج أي نظام شديد المركزية يتحول إلى نظام أقلوي فئوي. وفي الحقيقة نجد أن هذه المعادلة باتت أكثر من يمثلها هي الإدارة الذاتية؛ إن في تصديها للإرهاب أو في تقديم نموذج التغيير الذي خرج من أجله شعب سوريا قبل أحد عشر عاماً. ولأن الحلول حينما تتغيب - تُستبعد - تُستقصى - تتأجل فإنها تتحول إلى عبء بحد ذاته.
يُعتقد بأن الجغرافيا التي تشغلها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والتي تقع مسؤولية أمنها واستقرارها على عاتق قوات سوريا الديمقراطية؛ كقوة وطنية سورية يجب أن تحظى بخصوصية كجزء من مؤسسة الجيش الوطني السورية وفق آليات وصيغ يتفق عليها، تمتاز هذه الجغرافيا بخصوصية تصل إلى درجة أحقيّة وصفها بأن لعنة الجغرافيا تتربص بها. جغرافيا الإدارة الذاتية أفشلت كلياً المشاريع الماضوية السياسوية التي تنظر إلى سوريا كقطعة من ميراثها، أو كممر إكمال مشاريعها، وذلك في ضوء الحديث عن مشروع «عثمنة» المنطقة أو «هلال فارسي» يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق، علماً بأن الإدارة الذاتية تنظر إلى نفسها بأنها جزء مهم لتحقيق أمن واستقرار المنطقة، ولأنها بالأساس مهتمة بالدفاع عن سيادة البلد السوري في شمال وشرق البلاد، وطرف معزز لأمن واستقرار أي بلد إقليمي أو دولي، غير مستعد بتاتاً لأن يخوض حرباً على الأساس الطائفي الديني أو العرقي القومي.
ربما؛ لم يرفع شخص واحد يعيش في منطقة الشرق الأوسط - وبخاصة الكرد والعرب - سقف توقعاتهم حيال ما يدور في خلد غيرهما، وبما يقدمه الآخرون كلاعبين متنفذين. ويبدو أن السؤال الأكثر منطقيةً سيكون عن سبب التردد أو موانع الانفتاح الكافي العربي على تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. هذه التجربة التي تعد المساهمة الرئيسية في منع انزلاق سوريا إلى التقسيم؛ على عكس مناطق معارضة سوريا التي تدار وتتدخل بتفاصيلها الإدارة التركية وباتت أغلب هذه المناطق يغلب عليها الطابع التركي، فرض اللغة التركية والعملة التركية ورموز الدولة التركية؛ مانعة فيها أي دلالة بأنها جزء من الجغرافيا السورية.
حان وقت الانفتاح العربي على تجربة الإدارة الذاتية التي تحاكي في حقيقة الأمر كل تجربة لا مركزية معمول بها في المنطقة أو العالم والاستفادة القصوى من إيجابيات وسلبيات هذه التجارب ومن دساتيرها، ومن تجربة كل دولة في العالم.
وإذا كان الجميع متفقاً على أن إعادة إنتاج نظام الاستبداد المركزي في سوريا ليس بالأمر الأخلاقي قبل كل شيء وليست لها صلة، فإنه يجب الانفتاح على الإدارة الذاتية كأحد أهم الحلول المعروضة المعمول بها بشكل فعلي عملي على الجغرافيا السورية. وكل الظن الصحيح أن تصويب وتطوير هذه التجربة وإكسابها البعد الوطني السوري فإنما يلزم إكسابها أولاً البعد الإقليمي والانفتاح العربي على هذه التجربة المهمة، وذلك بسبب عدة مسائل مترابطة لا يمكن الفكاك عنها في مقدمتها: التاريخ العربي الكردي المشترك والوحدة في المصير. وكتكثيف موجز، فإنه حان وقت الانفتاح العربي على تجربة الإدارة الذاتية (العربية السريانية والتركمانية والكردية).

- عضو مجلس رئاسة «مجلس سوريا الديمقراطية» (مسد)