د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

«متطوعون ومرتزقة»... تحدٍّ جديد للأمن الأوروبي

يُصر الرئيس بوتين على أن الحرب هي القرار المناسب في اللحظة المناسبة، قبل أن تتغير موازين القوى في أوكرانيا، لتصبح دولة نووية وعضواً في «الناتو» وتسمح بنشر أسلحة نووية على أراضيها، تكون موجهة إلى بلاده. والأرجح أن روسيا ستواصل عمليتها العسكرية رغم الأثمان العالية التي ستدفعها، بغية تحقيق الجزء الأكبر من أهدافها، سواء بالتفاوض أو بغيره.
أوكرانيا الآن تواجه واقعاً جديداً مفعّماً بالآلام؛ من دمار ولاجئين وفقدان لليقين وأفق غامض. روسيا تسعى لتثبيت واقع جديد يناسبها، في المقابل رفض ومقاومة مصحوبة بتكلفة ومعاناة إنسانية تزداد يوماً تلو آخر. وكلا الطرفين على استعداد لتحمل العواقب.
ما لم تحسب موسكو حسابه، هو أن يتضمن الواقع الأوكراني الجديد مواجهة كتائب أو مجموعات من مرتزقة ومتطوعين من جنسيات مختلفة، تلبية لدعوة الرئيس الأوكراني من أجل «مواجهة الاحتلال الروسي، وحماية أمن أوروبا، والدفاع عن الديمقراطية والحرية»، وهي العناوين الرئيسية التي استخدمها الرئيس زيلينسكي ليبرر بها دعوته لاستقدام الأجانب للقتال بجوار الجيش الأوكراني.
ولكن: هل صحيح أن هؤلاء المحترفين لفنون القتال وحرب العصابات سيلتزمون هذه الشعارات الكبرى؟ وأي مقابل سوف يحصلون عليه؟ في إطار الأموال والغنائم المالية، تسري معلومات بين مجموعات العنف والإرهاب في شمال سوريا، وامتدادات لهم في ليبيا، بأن الراتب الشهري قد يصل إلى عشرة آلاف دولار، أو أقل قليلاً، ولكنه أكبر من الراتب الذي يحصلون عليه في حدود ألفي دولار شهرياً، شريطة الالتزام بالبقاء داخل أوكرانيا لمدة لا تقل عن 6 أشهر، مع تنسيق العمليات - هجومية أو دفاعية - مع الجيش الأوكراني.
استجلاب محترفي القتال من الخارج أياً كانت هويتهم أو دينهم، امتد إلى إصدار عفو - كما أكد الرئيس الأوكراني - عن مجرمين مدانين قابعين في السجون، لغرض الدفاع عن بلدهم، والتكفير عن جرائمهم السابقة، شريطة تمتعهم بالقدرة على حمل السلاح واستخدامه، وهو شرط يتوافق مع أعضاء المافيات قبل أن يمتد إلى مواطنين عاديين ارتكبوا خطأ ما.
العدد المقدر لهؤلاء المدعوين من قبل الرئيس الأوكراني يتراوح بين 16 ألفاً و20 ألف شخص يحترفون القتال وحماية الأماكن والمباني، والقيام بعمليات مداهمة للقوات الروسية. وهو عدد كبير، وغالباً سيتشكل من 16 جنسية على الأقل، وهي الجنسيات التي أكدت انضمامها إلى هذا اللواء العالمي لتحرير أوكرانيا، وفقاً للمصادر الأوكرانية ذاتها.
الجنسيات لم تفصح عنها سلطات كييف؛ بيد أن المؤشرات تفصح عن جنسيات أوروبية، أبرزها: البريطانية، والدنماركية، والألمانية، وجنسيات أخرى شرق أوسطية، أبرزها: الإسرائيلية، والسورية، والتونسية. وكانت هناك دعوة من سفارة أوكرانيا في الجزائر تدعو مواطنيها للالتحاق بهذا اللواء العالمي، اعترضت عليه السلطات الجزائرية، وتم رفعه، وحدث الأمر أيضاً في السنغال. هنا تجاوزت السفارة صلاحياتها المحددة بمعاهدات دولية.
تشكُّل مثل هذا «اللواء الدولي» ستكون له تأثيرات عسكرية لا شك في ذلك، أبرز نتائجها أن الحملة العسكرية الروسية لن تقتصر فقط على تحقيق أهدافها المتعلقة بالأمن الروسي؛ بل تمتد إلى مواجهة مجموعات المقاتلين الأجانب والمرتزقة بشكل عام. عملياً: سيحقق هؤلاء كثيراً من الضغط على القوات الروسية، وسينجح بعض مجموعاتهم في إلحاق خسائر بشرية وفي المعدات، وسيكونون سبباً مباشراً في إطالة زمن الأزمة. ولكن من الصعوبة ترجيح أنهم سيهزمون الجيش الروسي، أو يدفعونه إلى الرحيل قبل أن يحقق الأهداف التي يُصر عليها الرئيس بوتين.
السؤال المثير هنا: هل يستقيم الاعتماد على مقاتلين متعددي الهويات والدوافع والآيديولوجيات، ودافعُ كثيرين منهم تحقيق ربح مادي بالدرجة الأولى، لحماية «الحرية والاستقلال وتحقيق أمن أوروبا والعالم»؟ من العسير؛ بل من المستحيل أن يقول المرء: «نعم»، لسؤال كهذا. ومن المستحيل أيضاً أن يتصور المرء أن احتضان أوكرانيا هذا العدد الكبير من المتطوعين والمرتزقة وعناصر تنتمي إلى جماعات إرهابية، وفقاً لتصنيف الأمم المتحدة، سيكون بلا مشكلات أمنية وإنسانية وقانونية، لأوكرانيا وللبلدان التي ستسمح لمواطنيها بالتطوع والمشاركة في حرب ضروس.
الحديث عن المشكلات القانونية للسماح لمن يريدون التطوع والقتال من أجل أوكرانيا، ظهر بالفعل في عدد من الدول الأوروبية، كبريطانيا والدنمارك وهولندا وأستراليا والولايات المتحدة.
تأييد وزيرة الخارجية البريطانية لمشاركة المواطنين البريطانيين في «تحرير أوكرانيا والدفاع عن أوروبا، وتكبيد الرئيس الروسي ثمناً باهظاً»، يجد معارضة من مسؤولين عسكريين نصحوا بعدم ذهاب أحد إلى الحرب في أوكرانيا، لاعتبارات قانونية، ولخطورة الوضع على الأرض. مبررات ترفضها وزيرة الخارجية، وترى أن لا قيود قانونية تمنع أي مواطن من أن يذهب للقتال لحرية أوكرانيا. الدنمارك تنكر أي قيود قانونية تحول دون التطوع لمناصرة أوكرانيا، والأمر ذاته في كندا. أستراليا تقدم حالة أخرى؛ إذ نصح رئيس وزرائها مواطنيه بعدم الذهاب إلى الحرب لاعتبارات قانونية، يتطلب النظر فيها قبل السماح بأمر كهذا. في فرنسا اختلف الأمر؛ حيث تم اعتقال 17 أوكرانياً من الفيلق الأجنبي التابع للجيش الفرنسي، كانوا راغبين في الذهاب إلى بلدهم للدفاع عن بلدهم، والسبب أن فرنسا ليست في مواجهة مع روسيا.
الأسئلة والإشكاليات القانونية ليست سوى جانب يسير من تداعيات الدعوة لتشكيل فيلق دولي لمحاربة روسيا على الأرض الأوكرانية. فأمن أوروبا مجتمعة، وأمن كل دولة على حدة، سيكون محل اختبار عسير بعد عودة هؤلاء إلى بلدانهم الأم، بعد انتهاء الحاجة إلى خدماتهم، والتي لا يمكن التنبؤ بموعدها. لكن المؤكد أن بعض هؤلاء من محترفي القتال لحساب الغير، قد يجد أن الأفضل له البقاء والتوطن في أوكرانيا جديدة، والبعض سيعود إلى بلده الأم مُحَمَّلاً بخبرات قتالية وميل جارف لممارسة العنف، من أجل قضايا بات يؤمن بها، وقد لا يرى حكومة بلده تدافع عنها، وقد يميل إلى توظيف خبراته ضد حكومته. ومع صعود التيارات اليمينية في عديد من المجتمعات الأوروبية، فالمرجح أن تجذب تلك التيارات هؤلاء العائدين من حرب أوكرانيا، باعتبارهم «أبطالاً من أجل الحرية»، والنتيجة العملية ستصب في تغيير في أدوات العمل السياسي، وبما يناقض مبادئ الديمقراطية السلمية، تماماً كهؤلاء الذين عادوا بعد انتهاء مرحلة ما وُصف بالجهاد الأفغاني، مطلع تسعينات القرن الماضي، وبدأوا مرحلة الإرهاب المفتوح في عديد من البلدان العربية ضد الحكومات القائمة، في مصر والجزائر وتونس والسعودية، ودول أخرى.
أوروبا، وكل من يغض الطرف عن تطوع بعض مواطنيه، والانخراط في أنشطة عسكرية مجرَّمة قانونياً، تضر نفسها بذلك، قبل أن تضر روسيا؛ بل تعطى للأخيرة مبرراً أقوى له طابع شرعي، لرفع مستوى الضغط العسكري على أوكرانيا، باعتبارها «ملاذاً لجماعات المرتزقة والإرهابيين».
الأمن الأوروبي لن يكون كما كان.. تحديات بالجملة في انتظاره.