عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الاختلافات الثقافية وحرب عالمية بالصدفة

الحرب الدائرة في أوكرانيا، هي حرب بين روسيا والمعسكر الغربي (بمفهوم الحرب الباردة) وقوته الضاربة حلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ جبهتها الأكثر شراسة في الوسائل الصحافية، ويتفوق فيها الغرب على الروس بخطاب متصاعد في تشدده، وقلق من أن يؤدي سوء فهم الثقافات إلى حرب بصدفة غير مقصودة، وهناك سوابق لحروب اشتعلت بصدفة شرارة صغيرة.
فالاعتقاد الشائع أن ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية في 1882، وتطوره إلى احتلال لمصر، بدأ بمشاجرة بين إسكندريين، مختلفي العرقية والديانة.
والحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) بدأت بحادثة اغتيال الشاب الراديكالي البوسني - الصربي جافريللو برينتشب (1894 - 1918) لولي عهد العرش الهنغاري - النمساوي فرانز فرديناند (1863 – 1914) وزوجته صوفي دوقة هونينبيرغ (1868 - 1914) في سراييفو في 28 يونيو (حزيران) 1914.
الحالتان، شرارة أشعلت بيئة غارقة في وقود من الخلافات والنزاعات وتراكم سلسلة من أحداث سبقت حادثة سراييفو بعقدين ابتداءً من تحالف بروسيا وفرنسا السري في 1894، وانتهاء بحرب البلقان (1912 – 1913) عندما هزم تحالف اليونان وصربيا ومونتنغرو، العثمانيين، مروراً بالحرب اليابانية الروسية (1904 - 1905)، وضم البوسنة - والهرسك إلى هنغاريا والنمسا في 1908، وصراع ألمانيا وفرنسا حول النفوذ في مغرب الشمال الأفريقي في 1911؛ إلى جانب استقطاب الأطراف وقوى رفضت اعتدال فرديناند واتجاهه نحو حلول سلمية.
أما حادثة الإسكندرية، التي تطورت إلى معارك مسلحة بين طوائف عرقية مختلفة، ودخول البعض من الصحراء الغربية (الليبية) لنهب وسلب المدينة، فأتت شرارة فجرت تراكماً سريع الاشتعال لثلاثة أعوام من صراع مصالح بين المصريين أنفسهم. الإسكندرية ونشاطها التجاري وثقافتها الأوروبية والخديو توفيق (1882 – 1892) ورئيسي حكومتيه، محمد شريف باشا (1826 – 1887)، ومصطفى رياض باشا (1834 -1911) وتيارات الحداثة والاستثمار في ناحية، والقوى التقليدية والمؤسسة الدينية وأصحاب الإقطاعيات الزراعية (مصر الداخلية عند المؤرخين) وحليفهم البكباشي أحمد عرابي (1841 – 1911) في ناحية، رافضين دستوري شريف ورياض (لأن الدستور وضع مساواة عادلة بين المواطنين من دون ذكر للدين واللغة والعرق، ودعا لهوية مصرية مستقلة عن الخلافة العثمانية)، وتدخل مصالح خارجية كالباب العالي، السلطان عبد الحميد الثاني (1842 - 1909) لتدعم تمرد ضباط الجيش ضد الخديو.
وإذا كان التوجس والشك بين ثقافتي مدينتين (الإسكندرية والقاهرة) لعبا دورهما في أحداث 1882؛ فما بالك بالخلافات الثقافية بين أمم مختلفة؟
اليوم، في الحرب الروسية الأوكرانية، تساعد التباينات الثقافية، أو تعرقل، التقدم الذي يحرزه كل طرف في إقناع المتلقي بالسياق السردي بالتقدم العسكري، وصحة موقفهم القانوني والسياسي، وتقهقر الخصم وانتهاكه للقانون الدولي.
مؤسسة الصحافة البريطانية، وأغلبها منحاز لأوكرانيا، تتوجه لجمهور ثقافته الاجتماعية تقدس الفرد واستقلاله عن الجماعة، والتركيز على حريته في الخيار الفردي (المناقض 180 درجة لشمولية الطرف الآخر - الذي شيطنته الصحافة لدى الرأي العام)؛ كما لا تحفل أغلبية الأفراد بالتأريخ نتيجة نظام تعليمي أساسه التخصصات الضيقة، ومعظمهم لا يتحدث لغات أجنبية. أكثرية التقارير الصفية البريطانية تكرر القصة نفسها مع تبديل الأشخاص؛ أوكرانية، معها ابنتها، وحيوان أليف معهما (أي إنسانة مثلنا تماماً في الغرب)، والأب والأخ بقيا في أوكرانيا لمقاومة الغازي المحتل (شجاعة يعجب بها الرأي العام الأنغلوساكسوني). أو أسرة أو أطفالها في مقابلة (في الإذاعة فالصورة غير متاحة بسبب الحصار والهجوم الروسي) في بدروم العمارة أو في أعماق محطة مترو الأنفاق، وإشادة المذيع بشجاعتها، وتنادي «وا أطلساه» للتدخل لفرض منطقة حظر جوي.
الغالبية العظمي من الصحافيين الغربيين، معظمهم من اليسار الليبرالي من الثقافة ونظام التعليم نفسه، لا تقنعه الرواية الروسية بالحقوق التاريخية، يبدون متشددين كصقور يكررون مطلب التدخل عسكرياً بمنطقة حظر جوي، بينما العسكريون المتقاعدون يبدون كحمائم أكثر واقعية، يلحون على الساسة لتهدئة الخطاب العلني، والتوصل إلى حل وسط بتفهم مطالب الروس في أوكرانيا.
الرئيس فلاديمير بوتين ومستشاروه، أخفقوا في فهم الثقافة الليبرالية للمجتمع المفتوح في الغرب، فلا تزال الوسائل الصحافية الموجهة من الكرملين مخططة لتقبل المتلقي الروسي، وهو أعلى ثقافياً، وتعليمه أكثر شمولاً وتنوعاً من مقابله الغربي. فالمناهج الدراسية العامة لا تشمل الأعمال الأدبية الروسية (تشيكوف، وتولستوي، ودوستويفسكي وغوغول، وبوشكين) فحسب، بل أيضاً أهم أدبيات العالم الخارجي من هومير، ويوريبديس، وأفلاطون إلى شكسبير، وبلزاك، وفولتير، بجانب الموسيقى والأوبرا والمسرح والباليه، كما يتقن التلميذ الإنجليزية ولغة أخرى أجنبية بجانب الروسية. ولذا تركز وسائل التعبير العام الروسية، على العمق التاريخي للأزمة، والارتباط جغرافياً وإنسانياً واقتصادياً مع أوكرانيا، وتعرض روسيا تاريخياً للغزو، سواء من نابليون (1812)، أو من إنجلترا في حرب القرم (1854)، أو من جحافل النازي في 1941، ومدخل الغزو دائماً أوكرانيا.
ثقافة مواطني بلدان البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا (جمهوريات سوفياتية سابقة) تجعلهم الأفضل حظاً في الحصول على المعلومات، فمستواهم التعليمي يقارب مستوى الروس، الذين تربطهم بهم علاقات تاريخية وإنسانية واجتماعية وثقافية، ويرتبطون اقتصادياً بفنلندا، والسويد، والنرويج، وبولندا. وبينما منعت بريطانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي بث قناة «روسيا اليوم»، فمواطنو البلقان يشاهدون - على الإنترنت - المصادر الصحافية الروسية باللغة الروسية (لا تزال تدرس في البلدان)، مع قنواتهم الخاصة بجانب الوسائل الغربية كالـ«بي بي سي». الرجال في سن التجنيد (18 إلى 60) يصطحبون أسرهم في هدوء ويستقلون السيارات خارج بلدانهم؛ لا يخشون «احتلالاً روسياً» بل استدعاءهم للجيش، ويرون الأوكرانيين والروس إخوة يعيشون بينهم، وآباؤهم حتى عهد قريب، خدموا معاً في الجيش السوفياتي، ولا يريدون القتال ضد أي طرف. ملخص ما قالته صديقة ليتوانية، تركت وابنها وزوجها (كلاهما في سن الاستدعاء العسكري) بلدهما بالسيارة عبر بولندا، وألمانيا، وبلجيكا إلى بريطانيا.
الجدة، وهي في التسعين من عمرها، (بثقافتها الخاصة التي تشكلت عبر سبعة عقود) رفضت مغادرة ليتوانيا مع الابنة، تذكر الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني، والحياة تحت الحكم الشيوعي السوفياتي، فالاستقلال، فالنظام القائم تحت سيطرة الاتحاد الأوروبي، ولم يطرأ تغير يذكر على حياتها؛ لا يهمها كيف سينتهي هذا الصراع، أو العلم فوق مدينتها القريبة من حدود روسيا، التي كانت جزءاً من ألمانيا مائة عام مضت.