كفاح محمود
TT

بين الاغتراب القسري والاختياري!

من الصعوبة بمكان إيجاد تعريف شامل لفكرة الاغتراب، لاختلاف مفهومه واستخداماته في الفلسفة والاجتماع والسياسة، وفي التحليل النفسي أيضاً، ناهيك عن السلوك الاجتماعي المتعدد الأوجه بيئياً وجغرافياً، رغم أنه، أي الاغتراب، فكرة قديمة، وقد تناولها الكتاب والفلاسفة منذ القدم حتى عصرنا هذا من زاويتين؛ إحداهما الاغتراب عن المكان، سواء كان ذلك الاغتراب عن الوطن اختيارياً أو قسرياً، حيث وقفوا على ما يصاحبه من أمور تمس النفس الإنسانية وعلاقتها بطبيعة الحكم والنظام السياسي في الوطن الأم من جهة، وبينها وبين النظام الاجتماعي وما تصبو إليه من علاقات مغايرة، ومن زاوية أخرى التفتوا إلى ذلك الإحساس بالاغتراب الذي ينشأ بين الأهل وعلى أرض الوطن لأسباب اجتماعية أو سياسية قسرية تقوم بها الدولة في الإبعاد أو النفي أو الترحيل، وما يترتب على ذلك من هجرة داخلية وتغييرات مهمة في جوهر العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ولعله من المفيد أن نأتي الاغتراب في الثقافة والفكر أسباباً ونتائج للوصول إلى حالة المغترب داخلياً أو خارجياً، وحين ذاك سنطل من زاوية الارتباط بالوطن والحنين إليه من نافذة الخارج المطلة على حافاته، أو النفوذ إلى أعماق ذلك المغترب في داخله، وهو يفتح نافذة إلى الخارج فكراً وثقافة ربما لولوج نمط من الحرية وهروباً في أحيان كثيرة من ملابسات الرقيب والسلطة والإقصاء، علَّه يجد عالماً مغايراً يوفّر مساحة أوسع للذات أو الرؤية، وفي الحالتين يتبلور ذلك الإحساس والشعور بالاستلاب وانفصال المنتج عما أنتجه: بين المواطن ومجتمعه، بين المجتمع وتاريخه، نتيجة الكبت القسري لرغبات الفرد والمجتمع المشروعة.
إن أكثر حالات الاغتراب الداخلي شيوعاً هو الذي ينتشر في أوساط المثقفين عموماً، والأدباء والمفكرين والإعلاميين والفنانين بشكل خاص، تحت هيمنة أنظمة سياسية أو اجتماعية تتناقض وما تحسُ به هذه الشريحة أو تتقاطع معها، أو من خلال عمليات الإبعاد والترحيل القسري، خصوصاً في البلدان التي تعج بالمكونات العرقية والدينية والمذهبية، كما حصل مع مئات السياسيين أو المثقفين على حد سواء أثناء نفيهم وإبعادهم إلى مناطق مختلفة تماماً عن مناطقهم في اللغة والثقافة والتقاليد في العراق وسوريا وقبلهما في الاتحاد السوفياتي السابق، أما الشكل الاختياري للاغتراب الجغرافي والحضاري فيبدو واضحاً من خلال الهجرات الكثيفة للشباب صوب أوروبا وأميركا وأستراليا وكندا، هروباً من النظام الاجتماعي أو السياسي، ناهيك عن أن نسبة كبيرة أخرى من أولئك المغتربين يبحثون عن الثراء أو العلم أو بقية حقول الأدب والفن والموسيقى، حتى عجَّت ساحتنا الثقافية والاجتماعية بأنماط أوروبية وأميركية، تخطت في كثير من الأوقات محاورها الأدبية والفنية إلى حيث الشكل والسلوك والممارسة.
إذن نحن أمام صنفين مهمين من حالات الاغتراب، وهما الاغتراب الداخلي الواقع تحت هيمنة السلطة، وما ينتج عن ذلك من تشويهات كبيرة في الأداء الثقافي ونوعيته، ومن ثم نشوء شكل آخر من أشكال الأعمال الثقافية التي تخدم النظام السياسي بحد ذاته، ولا علاقة لها بقضايا الشعب الأساسية، كما حصل خلال عقود من النظام الشمولي العراقي والسوري والليبي فيما يتعلق بالنتاجات الأدبية والفنية والفكرية والإعلامية، والصنف الثاني ذاتي يندرج تحت توصيفات الانكفاء في زوايا تجارب خارجية، ومحاولة الانغماس فيها لتحقيق الذات من خلالها، حيث يعمل المغترب في هذا الصنف من أجل تسلق تجارب بعيدة عن واقع وتراكم ثقافة مجتمعه، مما ينتج أنماطاً ثقافية مهجنة لا تلقى مساحة واسعة لانتشارها أو قبولها.
وخلاصة القول إن المساحة بين الاغتراب القسري والاختياري في معظم بلداننا ترتبط مباشرة بالمساحة الفاصلة بين الفرد والنظام الاجتماعي والسياسي والمعاشي الذي يعيشه في وطنه، فكلما اتسعت تلك المساحة ضاقت كثيراً بين القسري والاختياري لصالح القسري، حيث فقدان العدالة وغياب الأمن والسلم الاجتماعيين وانتشار البطالة والفقر وضبابية المستقبل.