ضعف التكامل المغاربي يبدو مقلقاً، لأنه يُبقي المنطقة مكبّلة بالخلافات والتوترات، ولا يلبّي الطموحات التاريخية التي وضعها الآباء المؤسسون خلال فترة ”الحركة الوطنية“ مطلع القرن العشرين.
هناك خلافات مُزمنة بين أكبر بلدين في المنطقة على خلفية المسألة الصحراوية والتنافس واصطفافات خارجية، كما أن هناك هشاشة متفاوتة الدرجات بين كل دول الإقليم تتجسد مظاهرها في ضعف الاستقرار وتعطّل التنمية وبطء المسار الديمقراطي.
المنطقة المغاربية، التي يسكنها أكثر من 100 مليون نسمة، تبدو في مسعاها التكاملي متأخرة كثيراً عن نظيراتها القريبة جغرافياً مثل البلدان الأوروبية التي أطلقت قطار وحدتها عام 1957 (اتفاقية روما) بعد عقود على بروز الحلم المغاربي المشترك. عقد هذه المقارنة يقود إلى ملاحظة هامة مفادها أن البلدان المغاربية تمتاز بتجانس ديني ومذهبي وثقافي يجعل الشعوب متقاربة كثيراً، لكن مع غياب تجانس سياسي واقتصادي يحول دون تقارب أنظمة الحكم والنخب. ومثال الحالة الأوروبية يعزز أهمية النوع الأخير من ”التجانس العملي“ وعدم التعويل فقط على عوامل العرق والثقافة والحديث عن المصير المشترك.
فالدول الأوروبية عاشت هي الأخرى حروباً وانقسامات حتى بعد دخولها عصر الأنوار والثورة الصناعية لكنها لم تدرك أهمية بناء وحدتها إلا بعد استقرارها على نظام ديمقراطي حقق لها التجانس السياسي وعلى تجارة حرة وسوق مشتركة حققتا لها التجانس الاقتصادي. وأي دارس لمسارات البناء الأوروبي، يقف بسهولة على الدور الذي لعبته مصالح السياسة والاقتصاد في تحقيق التكامل. هذا الأمر جعل التقارب الأوروبي في الأخير تكاملاً بين ديمقراطيات واقتصادات قبل أن يكون تكاملاً بين أعراق أو ثقافات.
دولة مثل إسبانيا لم يكن لها أن تنضم إلى الركب لو لم تتخل عن الديكتاتورية وتتبنّ الديمقراطية مع نهاية نظام فرانكو في منتصف السبعينات من القرن الماضي. كان يتحتّم عليها أن تصبح متجانسة سياسياً حتى تلتحق. كذلك، خضعت دول أوروبا الشرقية، في موجات التوسّع المتأخرة للاتحاد الأوروبي، إلى ”برامج تكيّف اقتصادي“ أهّلتها لتكون متجانسة. التكامل الإقليمي يحتاج إلى جهود تقنية تطال التفاصيل حتى ينجح.
في الحالة المغاربية، يبدو التجانس الناقص، إذن، مفتاحاً لفهم المشكلة كما الحل. فالجزائر والمغرب، البلدان اللذان يفترض فيهما تشكيل قاطرة التكامل، يتباينان في طبيعة النظام السياسي والاصطفافات الخارجية ونوعية الاقتصاد، وكلاهما يعاني في جبهات الاستقرار والتنمية والديمقراطية. ورغم الفكرة الرائجة عن جمود المسار المغاربي بسبب خلافات البلدين حول المسألة الصحراوية، فإن هذا القضية ربما لا تعدو أن تكون واحدة من الأعراض، والتعاطي مع الأعراض لا يعالج في الغالب جذور المشكلات الأعمق.
ووسط مشكلات البلدين الكبيرين، تخوض البلدان الأصغر دروبها الصعبة منفردة أحياناً ومستعينة بفضاءات أبعد أحايين أخرى. فليبيا التي تسعى الآن لإعادة بناء كيانها بعد سقوطها في أتون الحرب والانقسام عقداً من الزمن إثر إطاحة نظامها السابق، تفعل ذلك مستعينة بجهود محلية أو غربية / أممية في الأساس. وبدورها، تعاني تونس المتعثرة الآن سياسياً واقتصادياً، ولا يبدو أن الوضع المغاربي الحالي يفيدها كثيراً. كذلك، لا تزال موريتانيا تتلمس طريقها نحو الاستقرار بعيداً عن انقلاباتها السابقة ووسط مناخ إقليمي غير مساعد.
المشكلات العميقة التي تعانيها البلدان المغاربية تكمن أساساً في فقدان الثقة والتنافس الضار وتنزيل الخلافات الرسمية إلى المستوى الشعبي ما أجّج المشاعر السلبية على مواقع التواصل الاجتماعي وعمّق هوّة الخلافات خلال السنين القليلة الماضية. وأمام هذا الواقع المتردّي، بات التكامل المغاربي أمام مفترق طرق، إذ هناك ثلاثة مساعي رسمية تتصارع اليوم؛ الأول يدعو إلى إصلاحات ترمّم البناء المتهالك، والثاني يطرح إحداث أطر جديدة، والأخير يشي بشق كل بلد طريقه منفرداً.
ومهما كان السيناريو المرجّح، فإن ”حلم الآباء“ التاريخيين وفكرة ”مغرب الشعوب“ يبقيان متّقدين، بينما على المستوى الرسمي، سيتحتّم على الحكومات في الأخير إجراء إصلاحات تدفع باتجاه بناء قناعة مشتركة بوجود منافع للتكامل تفوق خسائر الانسدادات الحالية. لا أحد يستطيع تغيير الجغرافيا.
TT
التكامل المغاربي المتعثر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة