تتكرَّر هذه الأيام من المنابر المعارضة للممانعة مقولة إن لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني، وإن الاحتلال هذا مسيطرٌ على كل مفاصل الدولة والمجتمع على نحو بات من العبث التصدي له والعمل على إنهائه ووضع حد لتمدده، وإن اللبنانيين مغلوبون على أمرهم أمام هذه الفاجعة التي ألمت بهم.
يستحسن أصحاب هذه النظرة تصوير القوة اللبنانية المسند إليها تنفيذ جدول أعمال الاحتلال المذكور، أي «حزب الله»، باعتباره امتداداً محلياً للحرس الثوري الإيراني يأتمر بأوامر قادة الحرس وينفذ خططهم ورغباتهم.
يسيطر «حزب الله» على الدولة اللبنانية، لا جدال في ذلك، يتدخل في عمل القضاء، يعوق التحقيق في تفجير الرابع من أغسطس (آب) 2020، ويمنع انعقاد جلسات الحكومة ما لم تنزل هذه عند قراره بتنحية القاضي العدلي المكلف بالتحقيق في التفجير. الأهم أن الحزب يملك قرار الحرب والسلم في الداخل والخارج. هو من يشعل أو يطفئ نار القتال مع إسرائيل، وهو من يرسل مسلحيه إلى سوريا واليمن والعراق، إذا ارتأى ضرورة لذلك، من دون التشاور مع السلطات ولا مع المجتمع اللبناني، وهو مَن أفشل محاولة التغيير الشعبية بإجهاضه، بالقوة وبالدعاية، انتفاضة تشرين 2019، وهو، قبل ذلك كله وبعده، أدرى بمصلحة الوطن وفوق المساءلة والمحاسبة والنقد. سلطته تنبع من الغيب والإرادة الإلهية، بحسب ما يوحي اسمه.
يمكن متابعة سرد أوجه تسلط الحزب على اللبنانيين وعلى مصادرته حرياتهم وحمايته نظام الفساد والمحاصصة الطائفية، إلى ما لا نهاية. بيد أن التمهل ضروري هنا قبل الاسترسال في هجائية لا طائل من تحتها.
فالتشخيص أعلاه يشبه ما تناوبت على تبنيه وإعلانه قوى عدة في المراحل المختلفة للأزمات اللبنانية. هناك من كان يحمّل منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية كل الخراب الذي ألم بلبنان في الأعوام الأولى للحرب الأهلية. ثم ظهرت عبارة «الاحتلالات» التي تذهب إلى أن لبنان واقع تحت ثلاثة احتلالات: فلسطيني وإسرائيلي وسوري. ولن تنتهي المعاناة اللبنانية إلا بانسحاب الاحتلالات الثلاثة هذه. بعد ذلك جاءت عبارة «الوصاية السورية» التي مدت نفوذها إلى كل مؤسسات الدولة اللبنانية وراحت تتدخل في تعيين الموالين لها في كل المناصب، من رئيس الجمهورية إلى الحجّاب وعمال الكافتيريا في الإدارات العامة. والآن، نعيش زمن الاحتلال الإيراني وهو، مثل سابقيه، علة علل الخراب وآفة لم يسبق لها مثيل وسرطان أمسك بخناق اللبنانيين... والكثير من الصفات المشابهة.
في أثناء الحرب الأهلية، اقترف البعض عبارة «حروب الآخرين على أرضنا». اللبنانيون، وفق هذه العبارة لا علاقة لهم بحروب الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي يخوضانها في لبنان بأدوات فلسطينية وسورية وإسرائيلية ولبنانية. تلك معارك لا تعنينا، بل نحن ندفع ثمنها من دمار بلدنا ودماء شعبنا وهجرة أبنائنا إلخ... تعفي هذه العبارة اللبنانيين من كل مسؤولية عما وصل بلدهم إليه. هم - الآخرون - الأشرار جاءوا في غفلة منا وبدأوا قتالهم في ربوعنا وبين ظهرانينا ووقع بعض المضللين من اللبنانيين في أحابيل «الآخرين» وانجروا إلى هذه المقتلة العظيمة.
يُعاد اليوم خطاب مشابه: جاء الاحتلال الإيراني وسار في ركابه لبنانيون يعملون على تحقيق أهدافه في بناء إمبراطورية نووية لا ناقة ولا جمل لأكثرية اللبنانيين الساحقة بها، بل هم يتوقون إلى دولة وطنية واحدة ذات سيادة تنهي هذا الكابوس.
يتأسس هذا الموقف على خرافتين: الأولى هي أن اللبنانيين الأبرياء من إثم الاحتلال الإيراني ينتظرون معجزة تأتي من الداخل أو الخارج وتحررهم من نير الاحتلال المذكور. الثانية، وهي أفظع وأدهى، تتلخص في التصور أن بمجرد رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان، ستسود الألفة والمحبة وستنشأ دولة العدالة والازدهار التي ستكون، حُكماً، ديمقراطية تعددية والحريات فيها مضمونة ومصانة. الخرافتان هاتان تنتسبان إلى وعي –خرافي بدوره - زبدته أن اللبنانيين أبرياء ولا علم لهم بأسباب النكبات التي يتقلب بلدهم على نيرانها. اللبنانيون شهود مرغمون على مراقبة جحافل الاحتلالات تأتي وتذهب وهم جالسون على حافة الطريق. ويتجاهل الوعي هذا حقيقة أن اللبنانيين بعد انسحاب القوات السورية في 2005، وكان ذلك انسحاباً للاحتلال الأخير، فشلوا فشلاً ذريعاً في بناء ما يشبه ولو شبهاً بعيداً، دولة المؤسسات وحكم القانون وفصل السلطات وتوازنها.
الفشل الذي بدأ في 2005، أسفر عن انهيار 2019، في وقت كان أنصار إيران يعززون فيه نفوذهم ويبنون قوتهم مستفيدين من ميل السياسيين اللبنانيين المزمن إلى الاستقواء بالخارج وتفضيل العنف على صندوق الاقتراع، وهزال القانون وتهافت التشريع وانتشار الفساد على نحو ما زال يصيب المبعوثين الدوليين بالدهشة والقرف معاً.
كيف تحول النفوذ الإيراني إلى احتلال؟ على نحو لا يختلف كثيراً عن انقلاب لبنان ساحة لحروب الآخرين: تجاهل حقائق الانقسام اللبناني العميق وتعرض كل محاولات بناء إجماع وطني لبناني إلى الاغتيال بأيدي اللبنانيين الذين يبحثون لإنجاز مهمتهم هذه عن خناجر خارجية تطعن آمال مواطنيهم وأحلامهم.
7:44 دقيقه
TT
الاحتلال الإيراني إذ ينضمُّ إلى «حروب الآخرين»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة