علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

رجعي استضافته مجلة جريئة في تحررها الفكري!

السبب المختلف عن سبب إدانة عبد العظيم حماد لمؤتمر «الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر» في الكتابات الإسلامية الأصولية منقول باقتضاب من مقال محمد محمد حسين «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، المنشور لأول مرة في عددين من مجلة «الأزهر»، وفي عدد واحد من مجلة «الآداب» البيروتية، عام 1957.
اعتراض محمد محمد حسين على المؤتمر قائم على ما يلي:
بعض المشتركين في المؤتمر من الأميركان قسيسون يحترفون التبشير، وبعضهم من مستشاري وزارة الخارجية الذي يخضعون لتوجيهاتها.
كثير من المسلمين المشاركين في المؤتمر أميركيو الثقافة ممن تلقوا دراستهم في الجامعة الأميركية ببيروت، وفي الجامعة الأميركية بالقاهرة، وبعضهم قد اختير لما يُتوسم فيه من القدرة على توجيه التفكير في بلده، كأن يكون أستاذاً بإحدى جامعات البلاد الإسلامية، أو وزيراً للمعارف في أحد هذه البلاد، أو رئيساً لتحرير إحدى الصحف بها.
بحوث المؤتمر تعالج مسائل إسلامية لا تعني إلا المسلمين؛ فما دخل القَساوسة الأميركيين والدبلوماسيين الأميركيين في مشكلات الإسلام؟
وفي خانة التفسير، من الأهداف الواضحة لمحمد محمد حسين لعقد المؤتمر «العمل على إيجاد ألوان من الروابط والعلائق - باسم الصداقة والتعاون - تحمي المصالح الأميركية في البلاد الإسلامية من ناحية، وتُستغل في تأليب شعوبها على روسيا من ناحية أخرى... أما الجانب الخطر من أهداف هذا المؤتمر؛ فهو الجهود المبذولة لهدم الإسلام أو تطويره وجعله آلة من آلات الدعاية الاستعمارية لصيانة المصالح الأميركية والغربية... وهذه المشكلات لا تقوم إلا بتقارب القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب الإسلامية تعيش على قيم ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام؛ فلا بد إذن من أحد حلين: إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي يستند إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على مسلك الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين شيء ومشكلات الحياة شيء آخر، وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتبرير القيم الغربية، ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب».
لا يجادل محمد محمد حسين المؤتمرين الأميركيين كبايارد دودج وميلربروز وهارولد سميث وجون كرسويل وكنيث كراج في خطر الشيوعية على الإسلام وعلى المسيحية وعلى الأديان كلها؛ فـ«ذلك كله أمر مسلّم ومعروف، ولكن موضع البحث والملاحظة هو أن الإلحاد الشيوعي لا يُحارب في مثل هذه المؤتمرات من وجهة نظر الإسلام، ولا من وجهة النظر الدينية، أيّاً كان الدين الذي تقوم المعارضة على أساسه، ولكن الإلحاد الشيوعي الصريح يحارب في مثل هذه المؤتمرات بإلحاد مقنِّع يستهدف تحريف الإسلامي وإفساد بنيته وتفتيت وحدته، سعياً وراء غاية واحدة هي كسب صداقته».
ما تقدم هو تلخيص لما يقرب من سبع صفحات من صفحات المقال.
عرف الإسلاميون على مختلف أعمارهم، «إخوان» وغير «إخوان»، بهذا المقال مع نشره في كتاب «حصوننا مهددة من داخلها - في أوكار الهدامين» عام 1967.
وفي الطبعة الثالثة، طبعة عام 1971، التي أضاف فيها إلى هذا المقال في باب «الدراسات الإسلامية» مقالين آخرين: واحد عن مؤتمر «الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته»، وآخر عن كتاب ولفرد كانتويل سميث «الإسلام في العصر الحديث» زاد في الأسباب التي كان ذكرها في اعتراضه على مؤتمر «الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر»، ونوّع عليها.
في مستهل سردي لمعلومات عن مقال محمد محمد حسين: «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» كنت قد ذكرت أن المقال نُشِر في 1 من شهر أبريل (نيسان) عام 1957 في مجلة «الآداب» البيروتية، ووضعت بعد هذه المعلومة علامة تعجب. وقلت إن علامة التعجب هذه تحتاج إلى إيضاح. وهذا الإيضاح سيأتي في حينه.
وقد أتى الآن حينه.
هذه المجلة عند محمد محمد حسين - بحسب تعابيره - من المنابر التي تهدد حصون المسلمين من داخلها ومن أوكار الهدامين، لأنها مجلة تحررية تدعو إلى الوجودية في الفكر والأدب والحياة، ومنفتحة على الفكر الماركسي؛ فكيف له أن ينشر مقاله فيها؟! وبأي ذريعة نشره؟!
ومحمد محمد حسين هو عند مجلة «الآداب»، كما ينطق بذلك مقاله الذي نشرته، باحث ديني زمّيت، ورجعي فكرياً في استقباله للفكر الغربي وفي تمثله للفكر الإسلامي، فكيف أجازت نشر مقاله، وهي المجلة الجذرية في علمانيتها، والمحتفية بالإسلام التطوري، التحديثي، التقدمي؟!
أخفى محمد محمد حسين على قارئ كتابه في توثيق نشر مقاله لأول مرة، معلومة نشره في مجلة «الآداب»، لكيلا يبدو أمامه متناقضاً؛ فهذه المجلة في العقد الذي نشر مقاله فيها، عقد الخمسينيات الميلادية، كانت مشهورة بجرأتها في التحديث الثقافي والتحرر الفكري. وكانت لا توجد مجلة أدبية وثقافية عربية في ذلك العقد وفي العقد الذي تلاه تجاريها في هذا المضمار.
السؤال الذي سأجيب عنه: كيف حصلت هذه الواقعة الفريدة، وهي أن محمد محمد حسين الذي نشر مقاله مجزّأ في عددي مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من مجلة «الأزهر» عام 1957، نشر في الشهر الأخير المقال كاملاً في مجلة «الآداب»؟
حصلت هذه الواقعة الفريدة عن طريق الناقد رجاء النقاش؛ فهو الذي دفع بالمقال إلى مجلة «الآداب» في بيروت لنشره. توالت كتابات رجاء النقاش في هذه المجلة ابتداء من شهر يونيو (حزيران) عام 1954.
وكان أول كتاب أصدره في حياته، أصدره عن دار نشر هذه المجلة: «دار الآداب» عام 1958، وهو كتاب «في أزمة الثقافة المصرية»، الذي كتب مقدمته سهيل إدريس صاحب الدار ورئيس تحرير المجلة.
يتصدر الكتابَ مقالان عنوانهما «مصر والثقافة الأميركية».
رأى في المقال الأول أن مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر عملت على بلورة اتجاه قائم بالفعل في مصر، واعتمدت على ثلاث وسائل أساسية.
هذه الوسائل الثلاث الأساسية هي، كما عددها:
العمل على شغل دور النشر الكبرى (دار المعارف والأنجلو والنهضة والهلال وأخبار اليوم... إلخ) وتوجيه إمكانياتها المختلفة إلى خدمة لون معين من الإنتاج.
إغراء ذوي المراكز الثقافية الكبرى في مصر للقيام بالنشاط المطلوب.
جودة الإخراج المطبعي بشكل يلفت النظر، والاعتماد إلى جانب ذلك على كسب القارئ من الناحية المادية، إذ إن ثمن هذه المؤلفات المختلفة في السوق أقل بكثير من تكاليف طباعتها الممتازة، إلى جانب ما تدفعه المؤسسة من تكاليف ضخمة لدور النشر وللمشتركين في الترجمة أو التأليف.
ورأى في منشورات مؤسسة فرانكلين العيوب التالية:
أن كتبها المترجمة لا تمثل حقيقة الثقافة الأميركية، وأن بعض مؤلفاتها تنزع بعض القيم النفسية للأدب العربي، وأن هذه المؤلفات كثيراً ما تنزع إلى خلق أرضية شعورية وذهنية خصبة من الميل والألفة للاتجاهات الأميركية في مجالات السياسة والاجتماع والفكر.
في المقال الثاني راح يفسر تاريخياً لماذا نجح مشروع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر في وقت وجيز.
ثمة إشارة في المقال الأول تقودنا إلى أنه كتب المقالين في عام 1956، وهو قوله: «وقد بدأت هذه المؤسسة القيام بدورها منذ ثلاث سنوات». فالمؤسسة كان إنشاؤها في القاهرة عام 1953.
يسمى نجاح مشروع هذه المؤسسة الأميركية بـ«الدور الخطير الذي تقوم به في مصر»!
ويعزو نجاحها قبل أن يقدم تفسيره التاريخي إلى «البعض»، ونجاحها ونجاحهم قبلها في مصر يكمن عنده في تعبيرين فضفاضين استعملهما، وهما: القابلية الفعلية والقابلية الخصبة.
القابلية الفعلية هي أولئك «البعض» الذين كانوا معواناً لمؤسسة فرانكلين والذين لولاهم لما حظيت بالنمو والامتداد.
أما القابلية الخصبة، فيعني بها «عندما اكتشفوا أن الفكر والثقافة من الممكن أن يتحولا إلى (سلع) رائجة تضمن من ورائها الأرباح الكثيرة، وكانت نشأة هذه الفئة في ظروف ساعدتها على أن تكشف إمكانية المتاجرة بالفكر والثقافة، وبعض هذه الظروف كان متمثلاً في المراحل التاريخية المختلفة لنمو الفكر والثقافة في مصر، وبعضها كان متمثلاً في طبيعة هؤلاء التجار الأذكياء أنفسهم».
«البعض» الذين أفصح في آخر كلامه هذا أنهم تجار، أفصح عنهم أكثر في تضاعيف تفسيره التاريخي بأنهم تجار وافدون إلى مصر، سبّهم بأن مجتمعاتهم لفظتهم بفلسفتهم ومطامحهم المغلقة، وكرر هذا السبَّ مرة أخرى قائلاً عنهم: بعد أن عجزوا عن تحمل تبعاتهم كمواطنين فلفظتهم مجتمعاتهم وضاقت بهم.
وقبل تكراره لسبّهم كان قد أفصح بوضوح أن مجال نشاطهم التجاري هو إنشاء الصحف ودور النشر.
أي أنه يتكلم عن الشوام المتمصرين الذين أنشأوا في مصر صحفاً ومجلات ودور نشر.
هو لم يسمهم باسمهم «الشوام المتمصرين»، لسبب عام ولسبب خاص.
السبب العام أنه ذو اتجاه قومي عروبي، ينفر من الاتجاهات القومية الإقليمية في العالم العربي.
السبب الخاص أنه نشر كتابه في دار نشر لبنانية، فلو سماهم باسمهم لهيّج مثقفين لبنانيين عليه، وعلى سهيل إدريس صاحب الدار، لأن معظم أولئك كانوا من لبنان.
ولتوضيح الصورة، أشير إلى أن الباعث على هجومه المسرف عليهم وتحميلهم مسؤولية ما اعتقد بوهم متطرف أنه دور سيئ تقوم به مؤسسة فرانكلين في مصر، ليس باعثاً شوفينياً، بل باعث سياسي آيديولوجي معاد للرأسمالية ومعاد لأميركا واتجاهاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية ومعادٍ إلى حد ما لليبرالية.
فهو هاجم «أخبار اليوم»، صحيفة وداراً، بأقسى مما هاجم به الشوام المتمصرين المشتغلين بالصحافة والنشر، وخصص مساحة للهجوم عليها هي أوسع بكثير من المساحة التي خصصها للهجوم عليهم وللهجوم على «دار الهلال» المملوكة لآل زيدان، الشوام المتمصرين.
وخصص مقاله الأخير في كتابه للهجوم الشرس عليها، وجعل عنوانه يحمل اسمها. فالعنوان كان «أخبار اليوم أيضاً».
ومن شدة عداوته السياسية، الآيديولوجية لها لم يتردد في القول: «ومن المؤسسات التي أكنّ لها كثيراً من البغض والكراهية مؤسسة (أخبار اليوم)». وهجومه الشرس عليها في المقال الثاني، وفي المقال الأخير، كان ممتداً من ماضيها الملكي إلى حاضرها في عهد ثورة 23 يوليو (تموز).
قد يقول الذي سبق أن قرأ كتابه أن قسوة وشراسة واتساع هجومه على «أخبار اليوم» يرجع إلى أنه في المقال الثاني رأى أن أصحابها تعلموا المبادئ الراسخة الأولى - وأنا هنا أستعمل تعابيره - من مدرسة التكنيك الكبرى: «دار الهلال».
ومما يدفع هذا الظن الخاطئ أنه في المقال الأول عاب بالاسم على طه حسين العقاد وعلي ماهر ومحمد حسين هيكل وأحمد زكي وعبد الرزاق السنهوري كتابة تقديم كتب مؤسسة فرانكلين.
وفي هذا المقال اعتبر كتاب محمد عبد الغني حسن عن شعراء المهجر الصادر عن هذه المؤسسة مثالاً واضحاً لتشويه بعض القيم النفسية للأدب العربي، وانتقد المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب عزيز أباظة بأنها مقدمة سطحية.
واتهم في المقال الثاني محمد زكي عبد القادر، بأنه كاتب عاش على هامش المعارك الوطنية.
واتهم أيضاً في مقال من مقالات الكتاب (بعد المعركة)، ماهر نسيم بأنه من أبرز الأسماء في الفترة الأخيرة التي تتستر مؤسسة فرانكلين بأسمائهم.
اتهم في المقال الثاني سلسلة «علم النفس للآباء والمدرسين» التي تصدرها مؤسسة فرانكلين بنسبة كتاب كل أسبوع، ويشرف على إصدارها وترجمتها عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية، بأنها منفذ أسبوعي يعتمد الاستعمار المتطور عليها في التسلُّل إلى المدارس ونظم التربية ومعاهدها وإلى الجامعات في مصر.
التفسير التاريخي أراد منه أن يشرح كيف أصبح الشوام المتمصرون ما بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين «قابلية فعلية» آزرت مؤسسة فرانكلين وساعدتها على النجاح. وكيف كانت مصر سوقاً واسعة في تلك الفترة فتحت أعينهم على فكرة رسملة الفكر والثقافة. وكون مصر كانت سوقاً اقتصادية واسعة، هو ما عناه تحديداً بـ«القابلية الخصبة».
المساحة تضيق عن تقديم ومضة عن تفسيره التاريخي، وسأكتفي بالقول إنه كان في تضاعيفه تفسيراً ماركسياً تبسيطياً يتسم بقدر عالٍ من الصحافية المتخففة من التأني العملي والمنهجي. لكن له عذر في الوقوع في هذا المزلق. فحين نشره لكتابه كان سنه لا تتجاوز الثالثة والعشرين.
ورغم هذه الملحوظة، فإن هذا الكتاب الأول له يشهد له بالنبوغ الثقافي المبكر. كما أن مقالاته التي كتبها وهو يدلف إلى سن العشرين، تشهد له بأنه كان طُلعة ثقافية.
وأنبِّه إلى أنَّ ما قلته في تسمية تفسيره التاريخي بالماركسي، لا يعني أني أُخطّئ هذا التفسير بمجمله، وإنما أشير إلى أن رجاء فيه كان فهمه بمنحاه التبسيطي. ولا يعني أنه كان ماركسياً في العقيدة. فهو كما تبدى لي في تفسيره يأخذ الماركسية أداة تفسير. أي يأخذ بها على صعيد المنهج لا على صعيد الآيديولوجيا.
وهذا الأخذ بدأ قبل تقديمه لتفسيره التاريخي، وذلك عند حديثه عن «تسليع» الشوام المتمصرين للثقافة والفكر.
ولدرء تهمة الشيوعية عنه أصرَّ بما يخالف صريح العلم الماركسي - يا للهرطقة والتجديف ضد مفهوم الطبقة في هذا العلم - على أن رجال الحكم ورجال الدين هما فئتان، وليسا طبقتين!
والحق أنه في كتابه كان قومياً عربياً لكن بميل يساري. وللحديث بقية.