وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

اقتصاد يدعم الموظفين

لن أطيل في المقدمة وسأختصر لكم الموضوع، الرأسمالية كنظام اقتصادي في السعودية هي سياسة أساسية وأصيلة للدولة منذ التأسيس ولكنها حتى اليوم ليست ثقافة عامة للمجتمع، حيث الوظيفة أهم من ريادة الأعمال.
لكن ما أراه على أرض الواقع هو أمر مختلف. فهناك وزارات ومسؤولون حكوميون تفكيرهم لا يمت للرأسمالية بصلة، بل على العكس هم ضد القطاع الخاص ولا يؤمنون به ويريدون توسعة النفوذ الحكومي وحصر دور رجال الأعمال على المناقصات التجارية التي يطرحونها لهم لتنفيذ المشروعات.
كم ساءني ذاك المنظر في المؤتمرات التجارية عندما أرى رجال الأعمال هنا يركضون خلف الوزراء ووكلائهم سعياً لإرضائهم بينما هذا المنظر نفسه في الغرب عكس ذلك. ففي كل مؤتمر تجاري يدخل رؤساء الشركات بهيبة وينظرون إلى الوزير نظر الندّ لأنهم هم من يخلق فرص العمل وينعشون خزينة الدولة ويصدرون المنتجات للأسواق العالمية ويرفعون ميزانها التجاري.
لا أتصور أن وزيراً أو مسؤولاً يمكن عدّه رأسمالياً إذا كان ينظر إلى الأفراد في المجتمع على أنهم موظفون. إن أخطر شيء ممكن تصوره هو أن يتم حصر الإنسان بكل إبداعاته في قالب وظيفي. ولهذا يعجّ البلد بالبطالة وتضجر الدولة من حل مشكلتها.
ومشكلتنا في الأصل ثقافية. ولو سألنا غالبية الآباء والأمهات من جيل الطفرة عن طموحاتهم لأبنائهم لوجدنا أن الكل يشجعهم على الوظيفة. لماذا؟ لأن قبل الطفرة كان المجتمع تجارياً بحتاً، ولم تكن هناك دولة توظِّف الأفراد. ثم جاءت الطفرة وجاء معها عصر المؤسسات الحكومية الكبرى وبدأت الوظيفة تصبح هي الأساس في المجتمع وأخذت مكان الدكان والمتجر في السوق.
ثم نقل هذا الجيل الداء للجيل الذي يليه. ومع عصر المؤسسات الحكومية الكبرى ظهرت الشهادات التي هي أساس الوظيفة، وأصبح طموح الأسرة أن يكون لديهم أبناء متعلمون أصحاب «أعلى الشهادات» ومن هنا دخلنا في عصر الدكتوراه الذي أعده أحد معرقلات نمو اقتصاد المملكة في العقود الأخيرة.
بسبب هذا العصر امتلأت الحكومة بالأكاديميين، وهذا ليس تقليلاً من الدرجات العلمية والبحث العلمي، بل بالعكس كلّنا مع البحث العلمي، ولكن البحث الأكاديمي لا يمكن أن يكون أساس الحركة التجارية والاقتصادية. إن الأكاديمي شخص يستطيع التعامل مع النظرية ودوره كمستشار ومخطِّط ومُراجِع للاستراتيجية المؤسساتية أفضل من دوره كمنفّذ وقائد لمؤسسة ربحية.
ولهذا لم أستغرب حديث ولي العهد عن الوزراء السابقين الذين قال عنهم في لقائه الشهير هذا العام إنهم لا يصلحون للعمل في أصغر شركات صندوق الاستثمارات العامة. الحمد لله أن هذا العصر بدأ في الزوال وامتلأت الدولة الآن برجال من القطاع الخاص والشركات الدولية والمصارف، ولو نظرنا اليوم إلى تركيبة الوزراء سنجدهم من خارج الأكاديمية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ماجد الحقيل الذي جاء من سوق العقار، وعبد الرحمن الفضلي الذي جاء من أكبر شركة أغذية وألبان في المنطقة، أو خالد الفالح الذي أمضى عقوداً في إدارة «أرامكو السعودية».
والآن بدأنا نشهد عودة الخصخصة والتفكير في دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة وخلق جيل من رواد الأعمال الشباب. لكن الاقتصاد الكبير لا يزال يدعم التوظيف على حساب العمل التجاري والثقافة العامة لم تتغير كثيراً. ولهذا نجد سياسات عمل وتوظيف صارمة تهدف لتهجير الكفاءات والعقول من السعودية بدلاً من الحفاظ عليها.
إن دبي المجاورة ممتلئة برواد الأعمال غير الإماراتيين والشركات الناجحة التي نقرأ نجاحاتها كل يوم من خلال حصولها على تمويل أو من خلال بدء نشاطها في السعودية، لأن الأصل هو أن نحتضن الموهبة التجارية. هؤلاء الأجانب بإمكانهم خلق فرص عمل للمواطنين ودفع ضرائب دخل للدولة والأهم من هذا خلق «براند» أو علامة تجارية لدولة تحتضنهم.
إن رائد الأعمال لا جنسية له ولكن الشركات لها جنسيات. ولكن ما دام هناك وزراء ووزارات ومسؤولون لا يرون الإنسان أكثر من موظف وترس في آلة، فلن يكون هناك اقتصاد حقيقي. وستظل البطالة قائمة وستظل الدولة هي التي تدفع مليارات في صورة مرتبات لا استثمارات.
والحل لن يكون سحرياً وسنحتاج لوقت طويل حتى نتغير واستثمار معرفي ضخم في إنشاء جيل تجاري. إلا أن البداية دائماً تكون مع الثقافة وتغيير النظرة الحكومية للإنسان واعتباره رائد أعمال لا مجرد موظف، حتى تكون الوظيفة خياراً لمن لا يريد أن يكون رائد أعمال يتقبل المخاطر بدلاً من أن تكون أمراً حتمياً للغالبية. وأتطلع لليوم الذي يكون فيه رجل الأعمال ندّاً للوزير.