لو أن العراق الثوري بمعظم أطيافه وتسمياته ومعه السودان الثوري بمعظم مفردات بيانات أقطابه يتأملان ما آلت إليه أحوال لبنان المبتلى بكل أنواع الفيروسات الحزبية والسياسية التي تمعن نهشاً في الكيان الذي يزداد هزالاً يوماً بعد آخر، لاستدرك هؤلاء الأمور قبل أن يفوت الأوان ولا يعود الندم يجدي نفعاً وعلى نحو ما سبق أن عبر عنه الأمين العام «حزب الله» حسن نصر الله من خلال قوله ما معناه أنه لو كان يدري أن الرد على خطف جنديين إسرائيليين سيكون حرباً دمرت ما سبق أن أنجزه عهد رفيق الحريري، لما كان لعملية الخطف أن تتم.
في هذه الأيام ينشط رموز أطياف العراق الثوري الممسك بأوراق كتلك التي في قبضة «حزب الله» ويزداد إمساكاً بها على أساس أنه من دونها لا يصبح هو الرقم الوحيد الصعب في المعادلة الحُكْمية، وإنما سيصبح واحداً من سائر الأرقام العابثة في ميدان السياسة. وما يثير الاستغراب أن البعض من أطياف العراق الثوري ليس فقط هنالك الذي قاطع والبعض الذي شارك لم يحقق الفوز المتناسب مع تأثير حراكه الثوري في مرحلة مضت، وإنما عمد إلى استنساخ وصفة الرئيس دونالد ترمب لإبراء جراح الهزيمة في الانتخابات بدءاً من ترداد القول إن ثغرات غير قانونية شابت عملية الانتخاب ثم بعد ذلك جاء الرد على أرقام الصناديق التي ليست لمصلحته، ثم أخيراً وربما ليس آخراً المطالبة بإعادة الفرز يدوياً والدعوة إلى التظاهر والاعتصام استفادة من الأجواء الرحبة من جانب الحكومة لجهة من يريد التظاهر والاحتجاج بالهتافات والبيانات والاعتصامات، فليكن له ذلك إنما من دون أن يتسبب فِعْله هذا بالأذى للآخرين أو يعطل مصالح الناس... أو يبلغ الاحتجاج مداه على نحو «الزلزال» الذي أعده السودانيون الغاضبون.
وإذا كان محركو هذه الاحتجاجات يدرون أن وسائل اعتراض ترمب لم تجد نفعاً فتلك مصيبة. وأما الكارثة فإنها إذا كانوا يدرون أن الأمر انتهى بأن ساكن البيت الأبيض بات جو بايدن، ومع ذلك يصرون على استعمال «قذيفة» الاعتراض وإعادة الفرز ومقاطعة مرحلة ما بعد العملية الانتخابية التي جرت بنسبة عالية من الأصول على طريق استعادة العراق ينطق نهجاً متوازناً مع الأشقاء العرب، وتفهماً متبادلاً مع الجار القريب والصديق البعيد وبالذات ذلك الذي عبْر المحيط حيث تمثال الحرية على ثباته.
لقد آن أوان الرفق بالأوطان، وبالتالي بالناس الذين ذاقوا من مرارة الغواية الثورية والحزبية والحركية ما يدفع بالمصائر نحو المجهول. كما آن الأوان لطي صفحات ازدادت اصفراراً من مراحل مضت عاشتها أوطان عربية مغلوب على أمرها، والكتابة في صفحة جديدة تليها صفحات من الطمأنينة، كون كلماتها تنضح بالحكمة والحنكة والخوف من الله، وكذلك الخوف على الكيان والمواطن. فليس من التعقل بمكان أن يصار إلى إفشال عملية تصحيح وضع في العراق تشكل العملية الانتخابية مفتاح أحد أبوابه المغلقة. وليس من التعقل بمكان أن تبعثر شرائح من الطيف السوداني صيغة إدارة متوازنة للدولة في أكثر الظروف دقة يعيشها المواطن.
وفي السياق نفسه ليس من الحكمة بمكان ألا يعيد بعض أهل «المقدسات الحزبية والثورية» النظر برؤيتهم وأساليب تعاملهم مع الأحوال الطارئة، وتفعيل ما لخصه الأمين العام «حزب الله» حسن نصر الله بمقولته سابقاً إنه لو كان يدري بما يمكن أن يكون عليه رد فعل إسرائيل لما كان أمر بخطف جندييها. وفي ظل الظروف الحالكة التي يعيشها لبنان منذ خمس سنوات يصبح مطلوباً أو محتملاً سماع مقولة مماثلة له بعد حين كأن تتضمن كلمة له في مناسبة عبارة لو أنه كان يدري أن حملة حزبه على أحد رموز القضاء اللبناني، وكذلك حواره الفولاذي العبارات عبْر الأثير مع أكثرية لبنان الماروني - الكاثوليكي - الأرثوذكسي - البروتستانتي تزيد فجوة الهواجس من مشروعه المقاوم الإيراني المدجج بالسلاح، ولا يخفف من وطأة الفجوة أن هنالك خيمة مارونية متينة الأوتاد حاضراً تلتقي معه في نصف الطريق غير معنية بالنصف المقاوم جملة وتفصيلاً... إنه لو كان يدري مفاعيل تلك الحملة لاعتمد كلاماً لا يشعل مشاعر أهل البيت المسيحي ناراً.
ثم إن أي شأن يتراجع أمام شأن القضاء. وقد يكون من المناسب التأمل كيف أن «هيلمان» ترمب الذي هو صاحب شأن سياسي عميق الجذور والتأثير في حزبه الجمهوري، لم يحل من دون أن يدلي قبل أيام بإفادة أمام القضاء في قضية رفعها متظاهرون من أصول مكسيكية اتهموا حراس ترمب بالاعتداء عليهم، وحاول محاموه جاهدين تمييع القضية لكن لا أحد أهم من القضاء، ترمب كان أم الذين يطلب القاضي البيطار سماع إفادتهم. لكن «الحزب» كما «الحركة» وحتى مفتي الطائفة بأعلى صوته يرون تحريم مثل هكذا مساءلة.
ويبقى ونحن نتأمل في المشهد العراقي السوداني اللبناني وكيف تعطلت لغة الكلام المداوي عند الجميع وعند آخرين في الديار المغاربية، نرى أن ما باغت به حسن نصر الله مسيحيي لبنان بمَن في ذلك حارسو أوتاد خيمته من دون المجاهرة الصريحة بذلك، هو أنه تحدث في إطلالة التحدي سياسياً حول مسألة لبنانية وليس كمقاوم من أجل القدس. مثل هكذا حديث لا يتطلب التلويح بمائة ألف مقاتل مدربين كما الذي يقال في هذا الشأن من أجْل فلسطين. وبدل هذا التلويح فإن خير الفرص لوضع الأمور في مسارها وبما يهدئ من الروع عموماً هو إتاحة المجال أمام القضاء الذي يؤدي الواجب انطلاقاً من أنه كما لا أحد أهم من بلده، فإن لا أحد مشتبَهاً به أهم من المساءلة احتراماً للقضاء ولأن العدل أساس المُلْك.
وإذا أُجيز القول في مثل هكذا ظروف، فإن تقديم كميات من السلاح لدى سلطة المائة ألف مقاتل إلى الجيش اللبناني رداً على تحية شاحنات المازوت التي سبق أن جاءت وللمزيد من الشاحنات يحتاجها الوطن في محنته الراهنة، كانت تحية أفضل ستعكس بداية انطباع مطمئن لدى كل اللبنانيين محل المخاوف التي استشرت. والله أكبر.
8:2 دقيقه
TT
تأملات في ثلاث حالات مستعصية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة