يونـس سليمـاني
صحافي جزائري يشرف على الشؤون الدولية في «الشرق الأوسط»
TT

الجزائر... مشروع وتحديات

المرحلة السياسية التي تعيشها الجزائر راهناً مثيرة للانتباه وتبعث على شيء من القلق: مؤسسات دولة تكافح بحثاً عن الاستقرار، و«حراك» داخلي خَفُت لكنه لم يخمد، واقتصاد ريعي لا ينتج سوى القليل عدا المحروقات، وتوترات مع دول الإقليم مفتوحة على كل الاحتمالات.
على مدى سنين وعقود، كان الجميع يتوسّم الكثير في الجزائر، بالنظر إلى ما تملكه من مؤهلات. بلد شاب ديموغرافياً أكثر من نصف سكانه (54%) دون سن الثلاثين، يملك روحاً وطنية عالية، ومرجعيات تاريخية ملهمة (أبرزها ثورات دحر الاستعمار)، وإرثاً ثقافياً ثرياً، وثروات طبيعية هائلة، وموقعاً جغرافياً متميزاً يسهّل التواصل بين المناطق العربية والأفريقية والأوروبية.
هذه المميّزات، دفعت، ولا تزال، كثيرين للحديث عن إمكانية بروز «مشروع جزائري» في المنطقة، إلا أن «الحلم» يصطدم بتحديات عميقة.
مؤسسات الدولة لا تزال تعاني أزمة شرعية، ذلك أن جلّ عمليات الانتخاب لملء المناصب التنفيذية أو التشريعية، مركزياً ومحلياً، تجري وسط جدل التزوير والهندسة وبمشاركة شعبية متدنية وفي ظل لامبالاة المواطنين. نظام سياسي معقّد لا يسهّل الحكم الرشيد ولا يتيح التواصل السلس مع المواطنين، كما أنه لا يتوفر على أدوات رقابة كافية للعمل التنفيذي. وهناك أيضاً صعوبات إدارية جمة معطّلة للتنمية وطاردة للاستثمار.
هناك لوم كبير لفترة حكم بوتفليقة، الرئيس الذي حكم البلاد أطول فترة منذ استقلالها. الرجل «تسلل» إلى المنصب الكبير في خضم بحث البلد عن «مُنقذ» من «العشرية السوداء». بدايته بدت مشرقة ثم انتهت خراباً، والعبرة دوماً بالخواتيم. كان بإمكانه أن يترك إرثاً سياسياً كبيراً لو تنحّى مع انتهاء فترته الثانية عام 2009، لكنه اختار حينها العبث بالدستور من أجل البقاء والتغطية على مقربيه الفاسدين، ومن هنا بدأت كارثة فترته الرئاسية.
جاء «حراك 22 فبراير (شباط) 2019» مُبهجاً. أعاد للشعب صوته وكرامته. منع الرجل العاجز جسدياً من البقاء رئيساً تحرّكه عصابة مستفيدة، ثم دخل (الحراك) لاحقاً منعرجات أضعفت وَهَجه. هذا «الحراك» عرّى السلطة السياسية وأظهر هشاشة الفاعلين السياسيين الآخرين، إذ انهارت الثقة في «حزب جبهة التحرير» التاريخي، وتبيّن ضعف أداء الأحزاب التي وُلدت منذ بدء التعددية السياسية عام 1989. الجزء البسيط الذي تكشّف من قضايا الفساد كان كافياً لفقدان الثقة، وهو ما يُبرر الصعوبات الجمّة التي تواجه السلطة الجديدة-القديمة لإقناع الناس بأفكارها ومشروعها. طبعاً الحديث عن فشل بناء الديمقراطية بعد 30 سنة على تبنيها نظرياً لم يعد مطروحاً في ظل الإخفاق في تحقيق أمور صغرى أقل شأناً.
القانون المنظّم لعمل الدولة (الدستور) فقد هو الآخر هيبته في ظل تعرضه للتبديل والترقيع المستمر، حتى بات للجزائر عدد من الدساتير يعادل عدد رؤسائها تقريباً. النظام «الجديد» الحالي أعد دستوراً عُرض مباشرة على الشعب بدل «نوابه» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فجاءت الصفعة قوية بمشاركة 24% فقط من المدعوين للتصويت، وأي متابع لما حدث يدرك أن «دستور الرئيس» عبد المجيد تبون «فُرض» أكثر من كونه «تبلور».
برز في خضم «الحراك» وقبله، جدل واسع حول أهمية ضبط الأدوار بين السياسي والعسكري. طبعاً، هذه عملية دستورية مستمرة في بلد لا تزال مؤسساته تتلمّس طريقها نحو الاستقرار، لكن يجب معالجتها وألا تُترك مادة تلوكها ألسن موجّهة أو أقلام غير متخصصة، وتفتح الباب أمام تدخلات خارجية محتملة. المصلحة الوطنية تقتضي أن يكون النقاش الوطني منفتحاً على كل القضايا وأن تقوده كفاءات مقتدرة.
يبقى التحدي الكبير الآخر أمام السلطة السياسية الحالية هو مواجهة الجبهة الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأس أولوياتها بناء اقتصاد متنوع لا يعتمد بشكل رئيس على المحروقات، وخلق فرص شغل لجيوش البطالين.
بدأت أسعار المحروقات تنتعش نسبياً، ويعد هذا بصيص أمل، لكن تجارب الماضي علّمت الجزائريين أن تدفق المال العام وحده لا يكفي وقد يكون سلاحاً ذا حدين، أحدهما انتشار الفساد مثلما حدث مع زمرة بوتفليقة. التحديات غير المرتبطة بالمال ربما تكون الأصعب، إذ هناك منظومة صحية هشة، وأخرى تعليمية تخرّج بطّالين ولا تتماشى مع سوق العمل، وقبل ذلك كله غياب للنموذج المطلوب للتنمية. البلد لا يتوفر على أي خطة متوسطة أو بعيدة المدى للتنمية.
وأمام هذه العقبات الكثيرة، تقاوم السلطة السياسة إحداث تغييرات كبيرة وفعالة، وتكتفي بوعود «جمهورية جديدة بدأت تتشكل»، مستغلة إعلامها المهيمن على المشهد. وفي المقابل، لا تجد غالبية المواطنين سبيلاً للتفاعل إلا بالتشكيك عبر النكات، والقلة الجادة ترد أن «الجزائر الجديدة» مطلب يجب أن يتحقق واقعاً لا أن يُفرض فكرة أو يُطرح للإلهاء.
على الصعيد الخارجي، تجددت في الآونة الأخيرة، وبشكل حاد، الأزمة مع بلدين مهمين، أحدهما جار والآخر مستعمِر سابق. حدث انزلاق كبير في توتر العلاقة بين الجزائر وجارها الغربي، إذ انتقل البلدان من التنافس إلى العداء والحديث الصريح عن سيناريوهات المواجهة. ما حدث بين أكبر بلدين مغاربيين خلال الفترة القصيرة الماضية ضرب في مقتل كل الجهود طويلة الأمد للتقارب بينهما وإقامة علاقات ودية.
وعلى نفس المنوال، فتحت «فرنسا ماكرون»، في الأيام الماضية، جولة جديدة من المواجهة مع الجزائر، ناسفةً بذلك مساعي طويلة لتسوية الخلافات القديمة، فراحت تشكّك في تاريخ مستعمرَتها السابقة وتطرح «إعادة كتابته» بالفرنسية والأمازيغية دون العربية، وربما محاوِلة الوقيعة بين الجزائر وتركيا.
بدورها، فاجأت «جزائر تبون» المتابعين، بنهج جديد مع البلد الجار والبلد المستعمِر سابقاً، معلنةً عن تدابير دبلوماسية واقتصادية «عقابية». إقدام الجزائر على فرض «عقوبات» ضد دول أخرى معطى جديد في حسابات هذا البلد، وليس معروفاً في هذا الوقت المبكر كيف سيكون الأمر مفيداً أو ضاراً.
عموماً، هناك في جزائر اليوم، مقوّمات مشروع للنهوض تقابلها تحديّات داخلية وخارجية، ووحدها الخطط العقلانية والجهود غير الإقصائية، قادرة على تغليب الكفة.