جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

انتخابات العراق... توقيع مع المستقبل

كانت الطائرة تستعد للهبوط في مطار الملكة علياء، بالعاصمة الأردنية عمان، بينما كان الحديث حول الانتخابات العراقية المقبلة، لا يزال مستمراً مع دبلوماسي عراقي، كان يجلس مصادفة بجواري.
اقتطعت المناقشة نصف وقت الرحلة من القاهرة إلى عمان، حول العراق الدولة والدور، استرجعنا معاً أجواء السياسة والثقافة، والإبداع، واستعرضنا الأسماء العراقية اللامعة التي لها بصماتها في مختلف المجالات. بدا واضحاً على ملامح هذا الدبلوماسي الاستغراب والدهشة، والحزن أيضاً، وهو يتأمل المنحنيات والمطبات التي مر بها العراق منذ عام 2003 إلى الآن.
حاولت التخفيف من وطأة كآبة الذكريات، حولت دفة الحوار إلى الحديث عن كاظم الساهر وسعدون جابر والمطرب ماجد المهندس، لم يبالِ كثيراً، فقط تمسك بجدية همومه، قطع صمته ليواجهني بسؤال: بوصفك أحد المراقبين والمهتمين بالقضايا العربية، كيف ترى انعكاسات الانتخابات العراقية المقرر إجراؤها الأحد المقبل، على مستقبل استقرار العراق والمنطقة العربية؟
لم أخفِ تفاؤلي بأن العراق عائد بقوة إلى محيطه العربي، ودوره التاريخي إقليمياً ودولياً، لكن علينا قبل الحديث عن أهمية ودلالات الصعود العراقي، أن نتوقف قليلاً أمام المؤشرات التي تقول، بأن منسوب الانهيار بلغ ذروته، ومن ثم وجبت العودة للمسار الصحيح، الذي يصعد بالعراق وشعبه. ذاكرة بغداد مليئة بالصور القاتمة، والمؤامرات، وشاهدة أيضاً على من باع ومن اشترى، العراق ظل جسداً جريحاً، ورهيناً للتجاذبات الإقليمية والدولية، كان الاختبار صعباً على بغداد، ما إن بدأت تتعافي من جحيم «الكاوبوي» حتى باغتها كابوس «داعش»، إبان ما يسمى «الربيع العربي»، لم تستطع بغداد أن تكون خارج النص المقرر عام 2011 بنشر التنظيمات والجماعات الإرهابية، العراق دخل في ذلك الوقت مرحلة شديدة التعقيد؛ انهيار واضح في الاقتصاد والخدمات والبنية التحتية، اختطاف ملامح الهوية العراقية، ظلت معاناة الشعب العراقي مقسمة ما بين الاحتلال الأميركي وبين الإرهاب.
صارت فواتير الخسائر باهظة، التوقف لتعديل المسار، مهمة وطنية تحتاج إلى مواصفات من نوع خاص، المتغيرات الإقليمية والدولية السريعة، تقول بضرورة عودة العراق وبسرعة إلى دوره الطبيعي.
الدكتور مصطفى الكاظمي، رئيس وزراء العراق، والابن المخلص لإحدى المؤسسات الوطنية، يدرك جيداً حجم تحديات المرحلة، تحرك في الوقت المناسب بدقة وبمهارة سياسية واستراتيجية ورؤية مدروسة، وحسابات صحيحة لاستعادة مكانة العراق التي نعرفها عبر التاريخ. امتلك رؤية بعيدة النظر، فتعاون بقوة مع الشراكة «المصرية - العراقية - الأردنية»، وانفتح على محيطه العربي بزياراته إلى المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، انحاز لقاموس التهدئة وتبريد الصراعات في المنطقة.
ما يؤكد استعادة بغداد لتوازنها في المنطقة، هو قدرتها اللافتة للنظر على استضافة 6 دول من الجوار، وخارج الجوار، في قمة بغداد «للتعاون والشراكة» خلال أغسطس (آب) الماضي.
هذه المؤشرات وغيرها، مثل زيارة بابا الفاتيكان للعراق، وانعقاد القمة الثلاثية المصرية - العراقية - الأردنية، تمثل مصادر تفاؤل بشأن عودة العراق إلى دوره الأصيل.
الانتخابات البرلمانية المقبلة خطوة مهمة على طريق الوصول إلى العراق؛ الدولة الوطنية القوية ذات القرار السياسي المستقل، البعيد عن أي تدخلات إقليمية تحاول تشويه المكون والنسيج السياسي والاجتماعي في العراق، ومن ثم، فإن هناك حالة ترقب واسعة تجاه ما ستسفر عنه الانتخابات العراقية، ومدى مساهمتها في تحقيق الاستقرار في العراق وفي المنطقة.
في تقديري، أن نجاح هذه الانتخابات بشكل يرضى عنه الشعب العراقي، تكون له آثاره الإيجابية على مختلف المسارات، سواء في الداخل أم في خارج العراق.
فيما يتعلق بالداخل العراقي، فإن إجراء الانتخابات يمثل استجابة قوية لرغبات شعبية، تسعى بجدية إلى تجديد وتحديث النخبة السياسية، بما يضمن طابعاً من الاستقرار الداخلي، هذا فضلاً عن أن هذه الانتخابات ترتبط بتشكيل حكومة جديدة، من شأنها صناعة حالة سياسية واقتصادية، تؤكد ثبات ورسوخ مؤسسات الدولة العراقية، وتشيع حالة رضا لدى المواطن العراقي، غير أن إجراء الانتخابات رسالة بعلم الوصول، تؤكد قدرة بغداد الأمنية على تنظيم مثل هذه الانتخابات.
أما فيما يتعلق بتأثير وانعكاسات هذه الانتخابات على المسارات الخارجية، فإن نجاح هذا الاستحقاق يمثل موقفاً عراقياً واضحاً تجاه أي تدخلات خارجية، وأن العراق لن يكون ساحة لعقد الصفقات أو تصفية الحسابات، وأنه لا بديل عن عودة العراق إلى محيطه العربي، واستلهام دوره الحضاري والثقافي، كوطن حر ومستقل، بما يعود بالنفع على الشعب العراقي، ويؤكد هويته، والحفاظ على خريطة بلاد الرافدين، وحمايتها من أي مخططات أو مشروعات تهدف إلى اختطاف العراق من قلبه العربي.
ما بين المسارات الداخلية والخارجية، يجب هنا، على جميع الحكومات والأحزاب والتحالفات السياسية، أن تكون عاملاً إيجابياً، وقوة دفع نحو نجاح العملية الانتخابية، وفق مرجعيات وأهداف وطنية، فالفرصة سانحة، الشعب العراقي في اختبار صعب، المصير يكتبه العراقيون، صناديق الاقتراع تكشف النيات، بغداد قطعت أشواطاً كبيرة في سباق التقدم والاستقرار، الدول العربية جاهزة لدعم العراق في مرحلة ما بعد الانتخابات، صعود بغداد بمثابة رافعة للعمل العربي المشترك، ودعم للاستقرار الإقليمي، ومن ثم، فعلى جميع الأطراف العراقية في الداخل والخارج، أن تدرك أن الحفاظ على هذه الفرصة أمر يحتاج إلى إرادة وعزيمة، وأيضاً قطيعة مع الماضي، والتوقيع مع المستقبل.