علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

تخاريف تآمرية يسارية

يقول وائل لطفي - نقلاً عن مقال أمينة خيري «مساءلة الشعراوي في عصر السوشيال ميديا» المنشور في جريدة «الإندبندنت العربية» - عن الشيخ الشعراوي إنه «كان جزءاً من سياسة دولية لمقاومة الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط، بإيعاز أميركي تلخص في إيجاد داعية على شاكلة المبشر المسيحي الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، بيلي غراهام».
وفي مقال له عنوانه «نحو فهم أفضل للشيخ الشعراوي» منشور في جريدة «الوطن» المصرية تحدث فيه عن نظريته هذه حول الشعراوي، ولا أدري إن كان فيها كرر ما قاله في كتابه «دعاة عصر السادات» أم أنه قد توسع فيه في هذا المقال.
يقول في هذا المقال: «أولاً، لا يمكن فصل ظهور الشيخ الشعراوي كداعية جماهيري عام 1973 عن الظروف السياسية لمصر والشرق الأوسط، حيث تم اعتماد سياسة مقاومة الشيوعية عن طريق المد الديني التي تعاونت مصر في تنفيذها في أعقاب تولي الرئيس السادات للسلطة.
ثانياً، كانت هذه سياسة الولايات المتحدة الأميركية منذ الخمسينات، حين كتب دين آتشيسون وزير الخارجية الأميركي في إدارة ترومان إلى دبلوماسييه في الدول العربية يكلفهم البحث عن بيلي غراهام يستغل وسائل الإعلام الحديثة لتعبئة مشاعر المسلمين ضد الشيوعية، على نحو ما فعل المبشّر الإنجيلي الشهير (وفقاً لمقال الكاتب الأستاذ عبد العظيم حماد في الشرق بتاريخ 18 يوليو «تموز» 2019)، وكان بيلي غراهام نموذجاً لرجل دين محلي تبنته وسائل الإعلام الأميركية حتى تحول لأيقونة الوعظ الديني في الولايات المتحدة وفي العالم.
ثالثاً، كان الشيخ الشعراوي هو بيلي غراهام المصري، الذي تبناه برنامج (نور على نور) أكثر البرامج الدينية جماهيرية، عقب سنوات طويلة أقامها الشيخ في السعودية، وفي وقت كان التعاون فيه بين مصر والسعودية في مجال مكافحة الشيوعية على أشده».
في العامل الثاني الذي ذكره وائل لطفي، والذي هو عبارة عن استشهاد بكلام قاله عبد العظيم حماد في مقاله «التأسلم والتنور حسب البوصلة الأميركية»، أورد استشهاده بكلامه على نحو منقوص، وسأورد ما قاله عبد العظيم حماد كاملاً، ليتضح ما عناه بوصف «الشهير»، ولكي أعرض نظريته التآمرية بصورة أوفى.
يقول عبد العظيم حماد: «... على نحو ما فعل المبشر الإنجيلي الأميركي الشهير وقتها بيلي غراهام، وهو ما تأخر ظهوره ما بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، حين توالى ظهور الدعاة التلفزيونيين بتنسيق مصري سعودي أميركي».
وصفه لبيلي غراهام بـ«الشهير» يعني به أنه كان «شهيراً» في الولايات المتحدة الأميركية، حين كتب وزير الخارجية الأميركية دين آتشيسون إلى الدبلوماسيين الأميركيين في البلدان العربية رسالة يكلفهم فيها البحث عن شبيه مسلم ببيلي غراهام المسيحي.
يمكن أن نخمن أنه كتبها ما بين عامي 1949 و1953، وهي الفترة الزمنية التي تولى فيها منصب وزير الخارجية؛ إذ لا نملك سوى التخمين لأنه لم يحدد عاماً من بين هذه الأعوام.
في مقال وائل لطفي المشار إليه، قد تلحظون مثلي أن وائل لطفي حصر نظرية عبد العظيم حماد في الشيخ محمد متولي الشعراوي. وهذا ما لا يريده عبد العظيم حماد لنظريته، وهي أن تُقدم بصورة فردية وحصرية.
فنظريته (بحسب ما قدمها) نظرية عامة تشمل كل الدعاة التلفزيونيين الذين ظهروا في «ما بعد حرب أكتوبر 1973».
ومع أنه أراد أن تكون نظريته نظرية عامة، فإنه لوطنية زائدة، أكسبها طابعاً إقليمياً خاصاً بمصر لوحدها؛ فالدعاة الذين ظهروا فيما بعد التاريخ الذي ذكره «بتنسيق أميركي مصري سعودي»، والذين حققوا بتاريخ متأخر جداً رغبة دين آتشيسون في أول الخمسينات، بأن يكونوا «بيلي غراهام المسلم»، هم دعاة مصريون ظهروا في التلفزيون المصري.
هنا سيثب وائل لطفي على ما قلته رادّاً بأنه لم يقدم نظرية عبد العظيم حماد بصورة فردية وحصرية، والمقصود بنظريته كان الشعراوي، لكنه جمجم في نظريته، ولم يبيّنها. ففي التاريخ الذي ذكره، كان الداعية التلفزيوني البارز هو الشيخ الشعراوي. ولا سواه كان «بيلي غراهام المسلم».
أمام هذا الرد المفحم سأسلّم له بما قال؛ فهو أعلم منّي بما يخفيه أستاذه. وسأعرف بعدها أنه مجرد شارح للمعمَّى عليه في نظرية أستاذه.
قد يقول البعض إن نظرية أستاذه عبد العظيم حماد نظرية مثقوبة؛ فهو لم يعلل لماذا تأخر ظهور «بيلي غراهام المسلم» إلى ما بعد حرب أكتوبر!
لهؤلاء أقول وكفى: إن الرجل فعل هذا بالعنية والتعمد، ليتيح للطامحين في السباحة في فلك نظريته مهمة التفكير في الأسباب والبحث عن العلل، وإلاَّ فهو - قطعاً - لا يجهلها.
لننصرف الآن من مرح وليونة المزح إلى نشافة الجد وخشونة القول فيه.
فأقول أول ما أقول بكل صرامة وحزم: إن نظرية عبد العظيم حماد وتابعه في النظرية وائل لطفي، ما هي إلا تخاريف تآمرية يسارية.
يستند عبد العظيم حماد في صوغ نظريته التآمرية إلى السردية التاريخية عن علاقة الإخوان المسلمين بالاستخبارات الأميركية التي رواها إيان جونسون في كتابه «مسجد في ميونيخ»؛ فهو قبل كلامه الذي استشهد وائل لطفي به، وأكملت الاستشهاد به، كان قد قال: «ويضيف آيلتس (هو هيرمان آيلتس كان سفيراً لأميركا في السعودية ما بين عامي 1947 و1949، وسفيراً أيضاً لها فيها ما بين عامي 1956 و1960. وتعين سفيراً لها في مصر ما بين عامي 74و 1979) أنه كان يعلم بوجود قناة اتصال منتظمة بين الدبلوماسيين في القاهرة والشيخ البنا، لكن الأبرز جاء عام 1953. وتشتهر باسم «مؤتمر برنستون»، نسبة إلى الجامعة الأميركية الشهيرة التي استضافت هذا المؤتمر تحت غطاء أكاديمي بحت، بينما كان الهدف الحقيقي هو جمع خبراء مسلمين في التربية والعلوم والقانون والفلسفة، من القادرين على التأثير في الحياة السياسية في بلدانهم، من أجل إحداث نهضة إسلامية تقاوم الشيوعية، عن طريق تقديم بديل مقبول في أوساط المسلمين، كما قال في حديثه في الجلسة الافتتاحية مظهر الدين صديقي مؤسس مركز لاهور الإسلامي في باكستان والقطب الثاني لـ(مؤتمر برنستون) إلى جانب سعيد رمضان».
في فقرة تالية، لا أدري هل هي تتمة لكلام هيرمان آيلتس أم هي تعليق عبد العظيم على كلامه، جاء فيها ما يلي:
«من المشهور أن الرئيس الأميركي وقتها داويت أيزنهاور استقبل المؤتمرين في البيت الأبيض، بنصيحة من سفيره في القاهرة، جيفرسن كافري، الذي كتب إلى رئيسه يقول: إن الإخوان المسلمين في مصر، وحلفاءهم في الجماعة الإسلامية في باكستان، يمكن أن يكونوا حلفاء جيدين ضد الشيوعية، وضد حركة القومية العربية ذات المنحى اليساري».
هذه الندوة التي رعتها جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس تحمل اسم «مؤتمر الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر»، وليس اسم «مؤتمر برنستون». وهي امتداد لندوة عقدتها تلك الجامعة في مارس (آذار) عام 1947، وكان عنوانها «الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته». العملان تُرجما إلى العربية في مصر. العمل الأول ترجمته «مؤسسة فرانكلين» عام 1956. والعمل الثاني ترجمته «سلسلة الألف كتاب» عام 1958.
والمؤتمران عُقِدا في ظل التفاتة المستشرقين إلى الإسلام واتجاهاته في العصر الحديث بعد أن كانوا يركزون على دارسة الإسلام في التاريخ أو الإسلام في عصوره القديمة، وفي ظل البحث عن جوانب التفاعل بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي واتصال الشرق بالغرب. وعُقِدا في ظل - كما يقول فيليب حتى في تقديم العمل الثاني - حرص «جامعة برنستون، وهي أولى جامعات أميركا التي نظرت بعين الاعتبار إلى الدراسات العربية والإسلامية، فأفسحت لها في برامج الدراسة بها مكانها اللائق».
وبالتوازي مع جامعة برنستون، أو هي سبقتها بقليل كان هناك «لقاءات جنيف الدولية»، التي كانت تبحث في مسألة تجاوب الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي بتلاقح نتج عنه فكر لقاحي، في المنتصف الأول من القرن الماضي في العالم العربي والعالم الإسلامي. وكان أول مؤتمر لها عقدته من أجل الغرض الذي أسلفنا الحديث عنه عام 1946. وكانت «لقاءات جنيف الدولية» منذ هذا التاريخ تعقد مؤتمراتها كل عام.
وكان الرائد لتلك الالتفاتة الاستشراقية الجديدة هاملتون جيب في كتابه «إلى أين يتجه الإسلام؟» الصادر عام 1932.
وبلا شك فإن محاولة أميركا احتواء الإسلام لصالحها كان وراءها عامل سياسي أميركي أملاه التحدي الشيوعي الذي يقوده الاتحاد السوفياتي، والذي برز مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذه المحاولة كانت قابلتها محاولة مماثلة من قبل الاتحاد السوفياتي لاستمالة الإسلام إلى جانبه باءت بالفشل، لكن الاهتمام السياسي والثقافي الذي أولته السياسة الأميركية للمنطقة العربية والإسلامية سبقه اهتمام أميركي قديم بمصر، من الناحية التعليمية والتربوية منذ عام 1919. أي قبل أن يكون في أميركا عند ساستها ورأسمالييها ومبشريها الإنجيليين المعمدانيين حديث عن الخطر الشيوعي.
نعود إلى الحديث عن «مؤتمر الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر» الذي طُبعت أبحاثه في كتاب باللغة العربية عنوانه «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، والذي يقول عنه حسين نصار في مقدمة لطبعة حديثة من هذا الكتاب إنه «عُقِد برعاية جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس في المدة ما بين 8 و16 سبتمبر (أيلول) سنة 1953 ببلدة برنستون، وفي المدة ما بين 17 و19 سبتمبر 1953 بمكتبة الكونغرس بواشنطن».
ثمة مبالغة فيما نقله عبد العظيم حماد عن دور سعيد رمضان في هذا المؤتمر. فدوره لم يتعد كونه ممن حضروه. ولم يكن الإخوان المسلمون ممثلين في أبحاث في هذا المؤتمر، ولم يجرِ في أي بحث من أبحاث المؤتمر ذكر لجماعة الإخوان المسلمين، بوصفها حركة إسلامية محدثة.
القريب من الإخوان المسلمين في سوريا، كان مصطفى الزرقا الذي كانت له مساهمة بحثية في المؤتمر، كان عنوانها «الشرع بوجه عام، والشريعة الإسلامية وحقوق الأسرة فيها»، لكنه دُعي بوصفه فقيهاً وقانونياً إسلامياً. وكانت له قبل هذا المؤتمر مشاركات في بعض المؤتمرات العلمية في أوروبا.
في بحث محمد البهي «اتجاهات الفلسفة الإسلامية، وكيفية مجابهة الأفكار الحديثة في المجتمعات الإسلامية»، وهو حديث مقتضب عن الحركات والاتجاهات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم يشأ أن يمد زمن بحثه إلى القرن العشرين لكيلا يتحدث عن فكر جماعة الإخوان المسلمين. لأنه في الأصل كان مجافياً لفكرهم، وليس لأن ذلك العام كان بداية التوتر في العلاقة ما بين ضباط الثورة والإخوان المسلمين، وكان وقتها يشغل رسمياً منصب المراقب العام للبحوث والثقافة الإسلامية في الأزهر.
وما يجدر التنويه به أن محمد البهي كتب بحثه هذا قبل سنوات قليلة من حصول انقلاب فكري عنده نزح به إلى أصولية إسلامية، وذلك بسبب ردة فعل حصلت له حينما حل في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماكجيل في كندا أستاذاً زائراً، ما بين عامي 1955 و1956.
كل معلومات عبد العظيم حماد عن ذلك المؤتمر، التي استمدها من مصادر غربية، واعتمد عليها في إطلاق نظريته التآمرية، هي معلومات غير صحيحة، وسأرتب نقضي لكل معلوماته ومعها كل معلومات وائل لطفي، على النحو التالي:
علاقة سعيد رمضان بالاستخبارات الأميركية بدأت في آخر سني عقد الأربعينات الميلادية. وكانت أول زيارة له إلى أميركا تاريخها يعود إلى تلك السنين. ومن المحتمل أن يكون الذي عقد قرانه بالاستخبارات الأميركية هو المستشرق والجاسوس البريطاني ج. هيوارث دن، وأنه هو الذي كان وراء تلك الزيارة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن جيمس هيوارث دن (أو الشيخ جمال الدين دن بعد إسلامه) هو الذي عقد قران سيد قطب بالاستخبارات الأميركية، لكن هذه الزيجة انتهت بطلاق سريع.
غالبية المسلمين الذين مثلوا أنفسهم أو مثلوا بلدانهم في أبحاث في ذلك المؤتمر، ينزعون إلى تحديث الفكر الإسلامي المعاصر تحديثاً ليبرالياً، وهم يختلفون في فهمهم للإسلام وللفكر الغربي عن فهم الإخوان المسلمين لهما.
لم يبحث المؤتمرون في ذلك المؤتمر في السبل والطرق الهجومية التي تكفل نجاح مقاومة الشيوعية في العالم العربي وفي العالم الإسلامي. وجل ما هناك بحث قدمه كنيث كراج عنوانه «التأثير الفكري للشيوعية في الإسلام المعاصر». وبحثه هذا لم يكن بحثاً دعائياً ولا تآمرياً ضد الاتحاد السوفياتي وضد الشيوعية. كما أن هناك بحثاً قريباً من هذا الموضوع، كان هو أحد بحثين اعتذر محمد خلف الله أحمد، جامع أشتات أبحاث ذلك المؤتمر، عن ترجمته. فلننظر فيما قاله في اعتذاره: «والثاني الأستاذ مظهر الدين صديقي، الزميل بمعهد الثقافة الإسلامية في لاهور، ومن المتخصصين في دراسة الإسلام وعلاقته بالشيوعية، كما يبدو ذلك في منشوراته ومؤلفاته، وكما وضح في مناقشاته أيام المؤتمر. وقد جاء بحثه المطول صورة من هذا التفكير؛ إذ تناول فيه حيرة العقل الباكستاني المسلم في الوقت الحاضر بين أنصار السلطة الدينية وأشباه العلماء من الإلحاديين وأتباع المادية الشيوعية، ورأيت من الأوفق لجو هذا الكتاب ألا يُنشر فيه». وللحديث بقية.