مارك زاندي
TT

متغير {دلتا} يخرج لسانه للناس

قطع الاقتصاد الأميركي شوطاً طويلاً بعد 18 شهراً كاملة على تفشى جائحة فيروس «كورونا»، ما أدى إلى ركود مرير. لكن كما أوضحت الموجة الأخيرة من الإصابات والاستشفاء من نوع «دلتا» شديد العدوى، فإن الوباء لم ينتهِ بعد، كما أن التداعيات الاقتصادية لا تزال على حالها.
اتضح هذا في الأداء الاقتصادي في أكبر مدن البلاد التي تضررت بشدة من الوباء. كان نظام الرعاية الصحية في نيويورك غارقاً منذ وقت مبكر؛ حيث عصف الفيروس بأحيائها المكتظة بالسكان. ولاحتواء الفيروس، جرى إغلاق الشركات، ما أدى على الفور إلى تعطُل خُمس عمال المدينة عن العمل. ومن بين المدن الكبرى التي فقدت ما لا يقل عن سدس وظائفها تقريباً بين عشية وضحاها؛ بوسطن، وشيكاغو، وديترويت، ولوس أنجليس، وميامي، وفيلادلفيا، وسان فرانسيسكو.
عملت هذه المدن بجدّ على لملمة اقتصاداتها مرة أخرى، وفي وقت مبكر من العام الحالي عندما جرى طرح اللقاحات، كان هناك كثير من التفاؤل بأنهم، شأن بقية أنحاء البلاد، سوف يتعافون بسرعة. وفي نيويورك، عادت أضواء «برودواي»، وأعيد افتتاح المطاعم والمتاحف، وأدى فريق «يانكيز» مباراة أمام فريق «ريد سوكس»، واستعادت المدينة ما يقرب من نصف الوظائف التي فقدتها. استعدت المؤسسات المالية الضخمة والشركات الإعلامية والشركات الاستشارية التي توظف عشرات الآلاف من العمال في المدينة للترحيب بهم مرة أخرى في أبراج مكاتبها في ناطحات السحاب. ولبضعة أسابيع مشرقة، بدا الأمر كما لو أن المدن الكبرى في البلاد ستعود سريعاً في أوائل الخريف.
لكن لسوء الحظ، هذا لن يحدث؛ حيث ظهر «متغير دلتا» شديد العدوى بسرعة في الصيف الحالي ليلحق أضراراً اقتصادية كبيرة. لقد أُحبطت خطط كثير من أصحاب العمل لإعادة العمال إلى المكتب، وبدلاً من العودة بعد عيد العمال، تأمل الشركات الآن في العودة الشهر المقبل أو الشهر التالي، فيما يتطلع البعض إلى أوائل عام 2022.
سيظل كثير من وسط البلاد هادئاً بشكل مخيف، ما يبدد الأمل في المطاعم وتجار التجزئة وشركات الخدمات الصغيرة الأخرى التي تلبي احتياجات هؤلاء المسافرين.
أصبح السياح والمسافرون من رجال الأعمال الذين يملأون غرف الفنادق ومراكز المؤتمرات في المدن الكبرى فجأة أكثر حذراً وخوفاً من الإصابة بالمرض. فعدد الأشخاص الذين يمرون عبر نقاط تفتيش «إدارة أمن النقل» كان في تزايد مطرد، لكنه تتضاءل مجدداً. وتراجعت حجوزات الفنادق والسيارات المؤجرة في الأسابيع الأخيرة، وتوقفت حجوزات المطاعم عبر الإنترنت أيضاً. ويقول محرك البحث العالمي «غوغل»، الذي يتتبع تحركات الأشخاص من خلال هواتفهم المحمولة، إن عدد الناس الذين يترددون على محلات البيع بالتجزئة والأنشطة الترفيهية في تناقص.
تسبّب متغير «دلتا» في مزيد من الفوضى في الخارج، وأحدث دماراً يتردد صداه بقوة في المدن الأميركية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببقية العالم. لن يكون هناك كثير من السياح البريطانيين أو البرازيليين أو الصينيين حتى يتم رفع حظر السفر وقيود الحجر الصحي، لكن من غير المرجح أن يحدث ذلك في القريب العاجل. أصبحت سلاسل التوريد العالمية المختلطة الآن أكثر تعقيداً، ولا سيما العالم الناشئ، ما يتسبب في نقص وارتفاع في الأسعار. (أغلقت الصين مؤخراً محطة في ميناء بحري رئيسي بسبب اكتشاف متغير دلتا بين عمال الرصيف. وارتفعت تكلفة شحن البضائع المتجهة إلى مدينة نيويورك من شنغهاي تحسباً لموسم شراء عيد الميلاد 4 أضعاف).
تكافح المدن أيضاً مع ندرة المهاجرين الأجانب الذين لم يتمكنوا من شقّ طريقهم إلى هنا خلال فترة الوباء. فمن دون مزيد من الهجرة، لن تقترب الشركات من ملء الرقم القياسي للوظائف الشاغرة. كان النقص المستشري في العمالة هو المشكلة الأولى التي تواجه الشركات قبل انتشار الوباء. فهو أمر أكثر خطورة الآن حيث توقف كثير من جيل طفرة المواليد عن العمل. وإلى أن ينتهي الوباء وتنعش هجرة العمال المهرة وغير المهرة، لن تتمكن الشركات، خاصة في المدن الكبرى، من الحصول على المساعدة التي تحتاجها.
تعتبر المدن الكبرى الأكثر تضرراً من الناحية الاقتصادية من ظاهرة «العمل من أي مكان». فقد أدى الوباء إلى خروج العمال من المناطق الحضرية، وتم تمكينهم من العمل أينما يحلو لهم. فأكثر من 3 أرباع مليون شخص غادروا المدن الكبيرة، وهو رقم أكبر من أولئك الذين انتقلوا إليها منذ انتشار الوباء، وفقاً لحسابات مؤسسة «مودي أنيليتكس» استناداً إلى تغييرات العنوان في ملفات الائتمان الخاصة بهم.
يعتبر هذا الرقم أكبر 3 أضعاف الرقم في فترة مماثلة قبل الوباء مباشرة. مدينة نيويورك وحدها مسؤولة عن أكثر من ثلث الزيادة في صافي تدفقات الناس من المناطق الحضرية إلى الضواحي والمدن الأصغر والمناطق الريفية. لم تعدُ لوس أنجليس ومنطقة الخليج في كاليفورنيا متخلفين عن الركب كثيراً، تليها شيكاغو، وبوسطن، وميامي، وواشنطن، وسياتل، وفيلادلفيا.
سوف يتخلى بعض العمال ذوو الياقات البيضاء (الأعمال المكتبية) عن أسلوب الحياة المتمثل في العمل من أي مكان عندما ترحّب مباني المكاتب بالعاملين مرة أخرى بشكل جدّي، لكن بالنسبة لغالبيتهم فهي وُجدت لتبقى. ستعمل إدارات الموارد البشرية على حلّ العوائق المزعجة.
على سبيل المثال، إذا انتقلت موظفة من نيويورك إلى جاكسونفيل بولاية فلوريدا، فهل يجب أن تستمر في الدفع وفقاً لهيكل الأجور الأعلى في نيويورك وتكلفة المعيشة المرتفعة، أو بما يتماشى مع تلك الموجودة في فلوريدا؟ سيكون لأصحاب العمل والموظفين، بطبيعة الحال، وجهات نظر مختلفة في هذا الصدد، ما سيؤدي إلى إبطاء سرعة تقدم هذه المفاوضات. بالنسبة لكثيرين، سيكون التنقل أقصر، وتكاليف السكن والمعيشة أقل تكلفة، وستنخفض الضرائب في ظل نمط حياة أسهل في كثير من الولايات الجنوبية والوسطى، وستكون بمثابة نقطة جذب ضخمة.
إن «متغير دلتا» هو تذكير، إذا كنا بحاجة إلى التذكير، بأن الوباء لم ينتهِ وأن الانتعاش الاقتصادي مرتبط بشكل وثيق بمداه وتدفقاته. لن يكون هناك خط مستقيم للعودة إلى القوة الكاملة للاقتصاد، خاصة بالنسبة لأكبر مدن البلاد. بالتأكيد لديهم بعض التعديل الذي يتعين القيام به؛ إيجاد طرق لتعديل أسعار العقارات والإيجارات وتكاليف المعيشة الأخرى وخفض معدلات الضرائب. لقد واجهت المدن تحديات اقتصادية رهيبة في الماضي، لكنها دائماً ما تغلبت عليها. وعندما يحدث ذلك، عندها فقط سوف يستعيد اقتصادنا وضعه الطبيعي مجدداً.

* كبير الاقتصاديين في مؤسسة «مودي أنيليتكس»
والمسؤول عن إدارة الأبحاث الاقتصادية وتحليل المخاطر
* خدمة «نيويورك تايمز»