جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

أفغانستان... انسحاب الضرورة أم اختيار الفوضى

منذ انسحاب آخر جندي أميركي من أفعانستان عشية 31 أغسطس (آب)، وعلامات الاستفهام تفرض نفسها بقوة على خرائط إقليم الشرق الأوسط: هل جاء قرار الانسحاب وفق سيناريو سابق التجهيز، داخل الاستخبارات الأميركية ومراكز التفكير التابعة لها؟ أم أن الخروج الأميركي بات اختياراً إجبارياً جراء الخسائر المتلاحقة اقتصادياً وبشرياً؟ وما تداعيات غروب شمس واشنطن من سماء الحسابات السياسية في آسيا الوسطى، وهل يأتي هذا القرار ضمن لعبة الأمم في صراع الإرادة والنفوذ؟ وما انعكاسات هذا الانسحاب على الإقليم العربي؟ وهل تلتقط حركة طالبان أنفاسها من جديد لتعيد تموضعها السياسي والآيديولوجي في الداخل والخارج الأفغاني؟ وما تأثير عودة صعود طالبان على باقي التنظيمات والحركات التي تنتهج نفس آيديولوجيتها؟
من المبكر التنبؤ بالسيناريو الحقيقي الذي يعنون المشهد الأميركي - الأفغاني، فالأقاويل كثيرة، والرؤى متباينة، وتقديرات المواقف غير متوافقة، وبالعودة إلى التاريخ، فإن الحسابات أكثر تعقيداً، التجارب السابقة وضعت الأطراف الإقليميـــة والدولية في ورطة اتخاذ القرار، والوقوف على حقيقة ما يجري، ففيما يرى البعض، أن سيناريو الخروج سابق التجهيز، غير رؤى أخرى تستبعد هذه الفرضية بدعوى أن خريف الإمبراطوريات بدأ يدق أبواب واشنطن، وأن الخسائر البشرية والاقتصادية، وضعت الإدارة الأميركية في مأزق أمام ضغوط الداخل، فوفق تقديرات الكونغرس الأميركي، فإن حجم خسائر دخول أفغانستان تجاوز 2500 قتيل أميركي، بخلاف خسائر حلف الناتو والجيش والمدنيين الأفغان، علاوة على الخسائر الاقتصادية التي تقترب من تريليون دولار، إذن الوضع في الداخل الأميركي لم يعد يحتمل الاستمرار في الاستنزاف الذي لا طائل من ورائه، لا سيما أن تقديرات العسكريين الأميركيين قالت إن البقاء عقدين آخرين في أفغانستان لن يغير من الواقع شيئاً، ولو أضفنا إلى كل ذلك، وعد الرئيس جو بايدن، أثناء حملته الانتخابية، الذي أكد فيه عدم توريث هذه الأزمة للرئيس الخامس، منذ عام 2001 عندما دخلت القوات الأميركية إلى أفغانستان، ففي هذه الحالة يتأكد لنا أن طهاة القرار الأميركي لم يكن أمامهم سوى تقديم هذه الطبخة شديدة المرارة على مائدة القيادة الأميركية، ظناً منهم أن القرار المناسب للهروب إلى الأمام من التحديات التي تواجه استمرار الولايات المتحدة على قمة العالم، في ظل متغيرات الصراع العالمي الجديد.
في ذات الوقت هناك من يقول إن طهاة قرار الانسحاب قدموا طبخة مسمومة على مائدة الصراع والتنافس الدولي، وإن الخروج من أفغانستان بمثابة سيناريو سابق التجهيز، وفي إطار استراتيجية بدأت في ديسمبر (كانون الأول) عام 2017، عندما استبدلت استراتيجية الأمن القومي الأميركي بخطر الإرهاب والتنظيمات الراديكالية خطر الصين وروسيا، لا سيما أن صعود بكين وموسكو بات يهدد النفوذ الأميركي لقيادة العالم، ومن ثم انصبت النقاشات الداخلية الأميركية ومراكز صناعة القرار في واشنطن، على كيفية تصحيح الخطأ الأميركي الذي استفاد منه - في وجهة نظرهم - الصين وروسيا، لدرجة وصلت لطرح وسائل الإعلام الأميركية سؤالاً يقول: لماذا تبقى هناك بين أفغانستان والصين في إقليم شين جيانغ (تركستان الشرقية) لتحافظ على سلامة وأمن الفناء الخلفي لروسيا والصين في آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز؟
اللافت للنظر أيضاً، أن أصحاب هذا المسار يستندون إلى إصرار دونالد ترمب، الرئيس الأميركي السابق، على إطلاق سراح عبد الغني برادر، رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان من السجون الباكستانية عام 2018، والتوجه مباشرة إلى الدوحة للحوار مع الأميركيين، أيضاً تتلاقى هذه الرؤية مع النهج المختلف هذه المرة لسياسة أميركا عند الخروج من الأماكن التي تحتلها، ففي كل مرات الانسحاب والخروج الأميركي، تحرص واشنطن على سحب أسلحتها الثقيلة والنوعية، لكن هنا في الحالة الأفغانية، أبقت أميركا على أسلحتها الثقيلة والنوعية، بل الأدهى من ذلك، أنها تركت ما يقرب من 150 طائرة عسكرية، وعشرات المروحيات النوعية الأخرى التي كانت تتفاخر بها القوات الأميركية.
لا مجال هنا لحسن النيات الأميركية، فالواقع يقول إن شيئاً يلوح في أفق واشنطن، ليس من طريق المصادفة أو الاضطرار، فمن ينتظر عقدين بكل هذه الخسائر والتكاليف، كان يستطيع إخراج مشهد يكون أفضل من ذلك بكثير لصالح واشنطن وحلف الناتو.
ما يدعم أيضاً سيناريو الطبخة المسمومة، تلك التصريحات التي يعلنها البيت الأبيض، بأن سبب الخروج من أفغانستان هو إعادة التموضع العسكري والاستراتيجي في المحيطين - الهندي والهادي - لمواجهة النمو البحري والاقتصادي والتكنولوجي للتنين الصيني، والتنمر الروسي. هنا وقفة، فما تقوله واشنطن بشأن إعادة تموضعها في آسيا لا يتفق مع شكل الخروج من أفغانستان، فكيف تقول أميركا بأنها تحرص على توفير أمن حلفائها وفي ذات الوقت انسحبت من أقرب ظهير أمني لهم؟!
كل هذا يدعم الفرضية التي تقول بأن المختبرات الأميركية تسعى إلى توريث الفوضى في آسيا الوسطى، وخلق بيئة جاذبة للجماعات والتنظيمات المتطرفة، بالقرب من المشروع الصيني «الحزام والطريق» بما يمثل تهديداً مستقبلياً للصعود الصيني والروسي، في إطار ما يسمى «لعبة الأمم».
ربما تكون حسابات الانسحاب الأميركي من أفغانستان ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـآسيا وجنوب شرقي آسيا، لكن في ظل ما يحدث في أفغانستان ولا يمكن فصله عن حسابات الشرق الأوسط، وهذا ما لاحظناه عبر ردود الفعل المؤيدة والداعمة من جانب الحركات والتنظيمات الإرهابية، ومن ثم، فإن تداعيات صعود طالبان إلى الحكم تحتاج إلى مزيد من الحذر والترقب الشديدين والدراسة العميقة لكل جوانب ما حدث في أفغانستان، فحركة طالبان تعلمت الدرس مما حدث لنظرائها من جماعات وتنظيمات، وبالتالي فإنها تحرص على تقديم وجه جديد لها، لكن العالم لا يزال في مرحلة الترقب وانتظار الأفعال وليس الأقوال، ربما تطول فترات الترقب، لكن علينا - نحن العرب - ألا نلدغ من الجحر مرتين، وأن نكون يقظين في التعامل مع المشهد الأفغاني الجديد بكل سيناريوهاته.