كريستوفر كالدويل
TT

إعادة التفكير في الترتيبات الدفاعية الأوروبية ـ الأميركية

عند الاستماع إلى الجدال الدائر في أوروبا حول الانسحاب الفوضوي للقوات الأميركية من أفغانستان، يندهش المرء من ضخامة المفردات التي طورها الأوروبيون على مرّ القرون لوصف الكوارث العسكرية. على سبيل المثال، جرى وصف ما عايناه في أفغانستان للتو بمفردات كثيرة جديدة، ناهيك عن «الهزيمة» والفشل «الذريع» و«المذلة».
وفي قلب هذه المناقشات، يكمن السؤال عمَّا إذا كان الانسحاب من أفغانستان يمثل فشلاً خطيراً بما يكفي لاستحقاق إعادة التفكير في الترتيبات الدفاعية الأوروبية - الأميركية. جدير بالذكر أن الحرب الأفغانية في جوهرها عملية تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشارك فيها لب «الناتو»، الذي يعود تاريخه إلى الحرب الباردة. وقد أثار الضعف الأميركي غضباً عارماً لدى القادة الأوروبيين. ففي ألمانيا، تحدث أرمين لاشيت، الذي يرشح نفسه ليحل محل زميلته الديمقراطية المسيحية أنجيلا ميركل في منصب مستشار ألمانيا في الانتخابات الوطنية هذا الشهر، عن «أكبر كارثة عانى منها الناتو منذ تأسيسه».
ويعكس تقييم لاشيت أكثر عن مجرد المشاعر المألوفة في موسم الانتخابات، وإنما من الواضح أن هذه المشاعر قائمة في بلدان أخرى. ويأتي افتقار بايدن إلى الكفاءة بعد أربع سنوات من الازدراء خلال إدارة ترمب.
كانت هناك بالتأكيد لحظات غابت فيها الثقة عن العلاقات بين واشنطن وحلفائها في «الناتو» من قبل، لكن هناك اختلاف واضح اليوم، وهو يؤثر على رد فعل القادة الأوروبيين على الفوضى الأفغانية.
خلال الحرب الباردة، كانت الشيوعية القضية التي أدت إلى استقطاب السياسات القارية. كانت النخب الحاكمة في أوروبا معادية للشيوعية في أغلبها. لذلك، رأت هذه القيادات ضرورة تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة المناهضة للشيوعية، بغض النظر عن مخاوفهم التي كانت تبرز من وقت لآخر بخصوص افتقار واشنطن للكفاءة أو مبالغاتها في نشر قوتها أو غطرستها. وكان من شأن هذا التوجه الأوروبي تعزيز «الناتو».
اليوم، نجد أن القضية التي تقسم الرأي العام الأوروبي تدور حول الاتحاد الأوروبي كدولة عظمى ما تزال في طور الجنين تنتمي إليها جميع دول أوروبا الغربية باستثناء عدد قليل منها. وقد تداخل مشروع الاتحاد الأوروبي مع عولمة الاقتصاد وأثار مناقشات مماثلة. وينظر البعض للاتحاد الأوروبي باعتباره مصدراً للازدهار وتعزيز حقوق الإنسان، بينما يعتبره البعض الآخر مصدراً لعدم المساواة والاستبداد.
وداخل كل دولة أوروبية تقريباً، يريد المتعلمون ومن يتمتعون بالتمكين «المزيد من أوروبا»، بينما يعارضهم المدافعون عن السيادة التقليدية القائمة على الدولة القومية، الذين يريدون حماية امتيازات برلين أو وارسو، على سبيل المثال، في مواجهة طموحات عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل. من الناحية الاجتماعية، فإن الانقسام يشبه ذلك القائم بين الديمقراطيين والجمهوريين داخل الولايات المتحدة.
ويسعى السياسيون المؤيدون للاتحاد الأوروبي بوجه عام إلى نقل مسؤوليات الحكم من العواصم الوطنية إلى بروكسل، بل إن العناصر الأكثر طموحاً بينهم يسعون إلى قدر من الحكم الذاتي العسكري للاتحاد. وسيتطلب ذلك إعادة التفكير في إجراءات عمل «الناتو»، وسيؤدي حتماً إلى تخفيف العلاقات مع الولايات المتحدة، رغم أن قيادات الاتحاد الأوروبي ينكرون هذا الأمر بصورة عامة عندما يكونون في حضور أميركيين.
ومع ذلك، نجد أنه في أعقاب الكارثة الأفغانية، بدأت قيادة الاتحاد الأوروبي في التعبير علانية عن مثل هذه الطموحات. من جانبه، دعا برنار جوتا، عضو البرلمان الأوروبي عن الحزب الذي يترأسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأوروبيين، هذا الأسبوع، إلى إيجاد بديل جيوستراتيجي للولايات المتحدة التي أصبح اهتمامها منصباً على نحو متزايد على الداخل.
كما صدرت عن ماكرون إشارات توحي برغبته في استغلال الأخطاء الفادحة الأخيرة كذريعة لنشر وحدات قتالية أوروبية خالية من أي عناصر أميركية. وقال الرئيس الفرنسي أمام مؤتمر عقد في بغداد في أعقاب سيطرة «طالبان» على كابل، إن فرنسا ستبقي على قواتها التي تحارب الإرهاب في العراق، «بغض النظر عما يفعله الأميركيون».
وعلى ما يبدو، تميل إيطاليا وألمانيا الآن في هذا الاتجاه. مثلاً، أواخر الشهر الماضي، قال باولو جينتيلوني، رئيس وزراء إيطاليا السابق ومفوض الاتحاد الأوروبي الحالي لشؤون الاقتصاد: «إنها مفارقة مروعة، لكن هذه الكارثة يمكن أن تكون بداية لحظة أوروبا». وبحسب تقارير، كانت ميركل جزءاً من مناقشات أوروبية حول الإبقاء على وجود مؤقت «قوي» في كابل.
الحقيقة أن صانعي القرار الأوروبيين لطالما راودهم الطموح إزاء مثل هذه المشروعات. (عام 1998، أصدر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك «إعلان سان مالو»، الذي دعا لبناء قوة ضاربة أوروبية مستقلة). أما ما افتقر إليه القادة الأوروبيون، فهو الإجماع الشعبي. المؤكد أن تكوين جيش يليق بقوة عظمى أمر ينطوي على تكلفة باهظة. وبالتالي، فإنه طالما ظلت القوة الأميركية متاحة فإن من المنطقي الاستعانة بها، بدلاً عن إفلاس أوروبا في محاولة (ربما خيالية) لمحاكاة هذه القوة.
وتواجه نخب الاتحاد الأوروبي اليوم أيضاً تحدياً يتعلق بالمصداقية. وقد أمضى وزراء داخلية الاتحاد الأيام الأولى من هذا الشهر، في محاولة لابتكار نظام هجرة مشترك للتعامل مع التدفق الكبير المحتمل للمهاجرين من أفغانستان. وبالطبع يشكل هذا الأمر أولوية، لكنه كان أولوية بنفس القدر عندما كان المهاجرون يفرون من سوريا بمئات الآلاف عام 2015. ولم يتمكن الاتحاد الأوروبي من إيجاد حل دائم في ذلك الوقت.
وفي الوقت الذي تكشف استطلاعات الرأي أن الأوروبيين يعتبرون الهجرة أكبر تهديد أمني لقارتهم، فإن سمعة الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالشرعية والتباطؤ لا تبعث على الثقة بأن بمقدور الاتحاد متابعة مشروعات أكثر طموحاً، وإنما الوضع على العكس تماماً.
وربما يشكل هذا التحدي الأكبر أمام الداعين لبناء بديل دفاعي للاتحاد الأوروبي. على مدار العشرين عاماً الماضية، شاهد الأوروبيون الولايات المتحدة تقود أوروبا نحو حروب لم ترغب أوروبا في خوضها، ثم شاهدوها تستسلم لميول سياسية عاطفية مناهضة للنخبة. وعليه، فإن شعور أوروبا بالإحباط أمر متوقع. ومن المؤكد أن انهيار أفغانستان سيزيد حدة هذا الإحباط.
ومع ذلك، سيواجه الاتحاد الأوروبي صعوبة في وضع نفسه في قلب الترتيبات الدفاعية الغربية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه خلق هو الآخر بين مواطنيه شعوراً بعدم ثقة إزاء النخب، على غرار المشاعر التي دفعت مثل الولايات المتحدة نحو مسارها الحالي. في هذا الصدد، على الأقل، فإن الدول الغربية تبدو متحدة الصف - وربما أكثر اتحاداً مما ترغب.
* خدمة «نيويورك تايمز»