ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

المسرح

استمع إلى المقالة

المسرح، على غرار مصارعة الثيران، فن لا يخضع لمبدأ الوسطية، فالمسرحية تكون ممتازة أو رديئة، ولا مَرتبة بين الاثنتين. منذ فترة أتيح لي في مدريد أن أشاهد عرضاً مسرحياً استثنائياً لمخرج عبقري هو الآيرلندي - الإنجليزي دكلان دونيلان حول تراجيكوميديا «حكاية شتاء» لشكسبير.

انقضت سنوات كثيرة لم أشاهد خلالها مثل هذا العمل المسرحي الذي وضعني في حال من الانخطاف طيلة 3 ساعات، غمرني خلالها شعور عارم بالجمال، والفرادة، والدربة والكمال، ولا شك عندي في أن الذين عاشوها مثلي ذلك اليوم لن ينسوها أبداً. وكم كانت سعادتي كبيرة أيضاً عندما لاحظت في تلك الأمسية أعداداً كبيرة من الشباب والمراهقين بين جمهور المشاهدين.

رغم أن دونيلان يتصرف بحرية واسعة في النص الأصلي، فإنه لا يساورني شك في أن شكسبير نفسه كان سيشعر بالسعادة نفسها التي شعرنا بها نحن المشاهدين، لو رأى ماذا فعل هذا الآيرلندي - الإنجليزي بنص مسرحيته؛ لأن ما فعله دونيلان بالنص يكشف الطاقات الهائلة في أبيات هذه الميلودراما، ومدى عالميتها وتماهيها مع الواقع الحالي. وما إن انتهيت من مشاهدتها موشحة بهذا الإبداع، حتى هُرعت إلى قراءتها من جديد ليتبيّن لي كيف أن «حكاية شتاء» التي أعاد دونيلان صوغها بخيال جامح وعبقرية مسرحية نادرة، ليست سوى مرآة لعصرنا هذا، ولأزماتنا، وعبثية حياتنا السياسية الغارقة في المكائد والفساد، ولاضطراباتنا الاجتماعية التي تتولّد من المظالم التي يقترفها الأقوياء، لكن رغم كل ذلك كم هي جميلة الحياة! من حين لآخر، لنا جميعاً، أغنياء وفقراء، ضحايا وجلادين، تحت سماء الحب والرقص والغناء والمرح، بعيداً عن رتابة الحياة اليومية ومقتضياتها.

كل الممثلين في هذه المسرحية على درجة فائقة من الإبداع في الأداء، يجسدون شخصياتهم بحرفية لافتة وفاعلية مذهلة، بحيث تبدو المفاضلة بينهم مجحفة ومضللة، لكن لا بد من التوقف قليلاً عند الممثل الذي يؤدي دورَ ليونتس ملك صقلية المذعور الذي تدور حوله معظم أحداث المسرحية، فهو ينتقل من الكوميدي إلى المأساوي، ومن العاطفي إلى البطولي، بالرشاقة نفسها التي ينتقل بها من البكاء والأنين إلى الضحك والقهقهة الصاخبة، بما يقارب الإعجاز من حيث القدرة على التحول بهذا الشكل وهذه الكثرة في عمل مسرحي واحد. الغيرة الجارفة التي يعاني منها هذا الملك المجنون، هي التي تنطلق منها تلك الحكاية في جزيرة صقلية، لتجوب أوروبا، وتتسبب في كوارث وأزمات كثيرة، تمرّ على الرعيان والنبلاء والمهرجين والخدم والشعراء الذين يحمل معظمهم أسماء أبطال الأساطير الإغريقية. ولشدة الانبهار، يتخيل المشاهد أن العالم بأسره يمرّ أمام ناظره، وأن الكون مصغّراً، كما في «ألِف» بورخيس، أصبح على حبل ذراعه.

هذا الثناء نفسه تستحقه أيضاً الإضاءة والموسيقى والملابس. تكفي المخرج بعض المكعبات الخشبية ليقلب المشهد على خشبة المسرح رأساً على عقب، وينقلنا من القصور العامرة إلى المراعي التي تسرح فيها القطعان، والأرياف الصاخبة بأعيادها الشعبية.

منذ سنوات قليلة احتفلنا بمرور 5 قرون على وفاة شكسبير وثرفانتيس. ليت صاحب الكيخوتي، رمز ثقافتنا ولغتنا، ذلك الرجل الطيّب والمأساوي الذي تجاهله معاصروه، وأمعنوا في الإساءة إليه، يحظى بمثل التكريم الذي خصصه دكلان دونيلان لواضع هاملت وماكبث وروميو وجولييت... وغيرها من الروائع؛ لأن العرض الذي شاهدناه لمسرحية «حكاية شتاء»، يستدرج أحاسيسنا وخيالنا بشكل حي ومباشر، ويكشف لنا التنوع المذهل والخيال الخصب اللذين كان يتمتع بهما ذلك المؤلف «الذي نكاد لا نعرف شيئاً عنه سوى أنه كتب عدداً كبيراً من الروائع، وانسحب من عالم المسرح والأدب عندما جمع ثروة تكفيه ليعيش بقية حياته بورجوازياً». لقد أبدع عالماً غنيّاً ومتنوعاً كالذي نعيش فيه اليوم، مع فارق كبير هو أنه جميل دائماً رغم العنف الذي يعصف به والمآسي التي يعانيها، وذلك بفضل الموسيقى وسحر الكلمات التي تولّد الفرح من الحزن، والمتعة من الحقد، وتحوّل التوحش والظلم إلى عظمة وعطاء. جمع شكسبير فنياً بين عصره والحقبة التي نعيشها اليوم، وما يتطابق بينهما وما يتباين، وفيه عظمة الأدب والمعجزات التي يصنعها الفن في حياة الناس، وكيف أن حياة البشر يمكن أن تنضح في آن معاً بالسعادة والبؤس، وبالفرح والألم، والشغف والخيانة واللؤم والبطولة. كل الغنى اللامحدود الذي يزخر به عالم شكسبير تلوح أنواره بكثافة شديدة ورائعة أمام أعيننا في هذا العمل الذي أخرجه دكلان دونيلان.

يبقى القول إن هذا العمل الذي أشرف عليه دونيلان، وقامت بأدائه فرقة «Cheek by Jowl»، شاركت فيه مسارح أوروبية عدة من فرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وإسبانيا، وعُرض في مدريد باللغة الإنجليزية، مع ترجمة إلى الإسبانية لمن تتعذر عليه المتابعة باللغة الأصلية، لكن هذا لم يكن حائلاً دون أن يتمتع الجمهور بما كان يشاهد على خشبة المسرح، ويدوّي تصفيقه تكريماً للممثلين وروعة الإخراج. ما العبرة التي يمكن استخلاصها من كل ذلك؟ هي أن الاعتقاد الذي ساد دائماً بأن اختلاف اللغات الذي كان يشكّل العقبة الكبرى التي تحول دون تنقل الفرق المسرحية من بلد لآخر، لم يعد موجوداً، ليس لأن تعلّم اللغات بات من ضروريات الحياة المعاصرة، بل لأن التكنولوجيا الحديثة تسمح اليوم بمتابعة العروض المسرحية عبر الترجمة المباشرة تماماً كما لو كانت باللغة الأصلية. حبذا لو أصبحت هذه التجربة مثالاً يحتذى به، رغم صعوبة ارتقاء الترجمة إلى مصاف الأصل في الأداء المسرحي.