د. ياسر عبد العزيز
TT

خبراء الإعلام في «داعش خراسان»!

يا له من تاجر موهوب وشاطر، ذلك الذي يستطيع أن يحقق أرباحاً ضخمة، ويتردد اسمه على ألسنة معظم الزبائن، بينما هو لا يمتلك إلا رأسمالاً صغيراً، وبضاعة محدودة، وسمعة باهتة، وذكراً خافتاً.
على مدى الأيام الثلاثة الفائتة، جربت أن أكتب في خانة البحث على محرك «غوغل» عبارة «تنظيم الدولة»، فظهر لي مباشرة اقتراح باسم «تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان» كأولوية أولى.
لم يكن هذا يحدث قبل اندلاع التفجير في مطار كابل، يوم الخميس الماضي، ولم يكن كثيرون يعرفون شيئاً عن «داعش خراسان». وهو تنظيم كان قد بايع أبو بكر البغدادي في منتصف العقد الماضي، حين لم يكن عدد أعضائه يتجاوز 1500 مقاتل، حسب تقارير مجلس الأمن الدولي، وهو عدد لم يبلغ في أوج عظمته سوى 3000 مقاتل، قبل أن يتآكل ويتقلص إلى نحو 800 مقاتل، كما أفادت صحيفة «التايمز» قبل يومين، نقلاً عن دراسة لـ«مركز الدراسات الاستراتيجية» في بريطانيا.
وسواء كان عدد مقاتلي «داعش خراسان» 800 مقاتل أو أكثر، فإنه استطاع أن يملأ الدنيا ويشغل الناس بتكلفة بسيطة للغاية؛ إذ نجح في إدخال انتحاري تابع له إلى محيط مطار كابل الذي تحرسه القوات الأميركية، ويتدافع فيه آلاف الأفغان والأجانب الراغبين في ترك البلاد، بعدما وقعت ثمرة ناضجة في حجر حركة «طالبان». وعند تفجير هذا الانتحاري نفسه، قُتل نحو 85 شخصاً، وجُرح العشرات، بينما كان بين القتلى 13 جندياً أميركياً، و18 جريحاً.
وبسبب هذا الانفجار، الذي لم يتطلب الكثير من الجهد والتدبير والموارد، بات «داعش خراسان» على رأس أولويات غرف الأخبار، وفي قمة ترتيب «التريند» على وسائل «التواصل الاجتماعي»، وفي مانشيتات الصحف والمجلات العالمية، وخبراً عاجلاً في مقدمة نشرات الأخبار.
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، برز في الأخبار اسم تنظيم «طلائع الفتح»، الذي شكلته مجموعة منشقة عن جماعة «الجهاد»؛ وهو التنظيم الذي قام ببعض العمليات المهمة في مصر، قبل أن يُقبض على أهم قياداته، ويتقلص، إلى أقصى درجة، نشاطه الفعلي وتأثيره السياسي.
لكن تقلص نشاط «طلائع الفتح» بفعل الضربات الأمنية القوية أو عدم امتلاكه القدرة على العمل الميداني النشط، لم يحل أبداً دون شهرته وانتشاره ورواج اسمه؛ إذ كان يمتلك قدرة على النفاذ عبر الإعلام، من خلال صياغة البيانات النارية، التي تعكس مواقف حدية عنيفة، وإرسالها إلى معظم وسائل الإعلام المعنية، في وقت مناسب.
لم أعد اليوم أذكر عن «طلائع الفتح» سوى أنه كان تنظيماً يجيد استخدام وسائل الإعلام لتعزيز صورته، رغم تراجع وجوده الفعلي وغيابه عن موضع الأحداث، كما لا أنسى أبداً أن زملاء صحافيين اختاروا أن يطلقوا عليه اسم «طلائع الفاكس»، في إشارة موحية إلى قدرته الملحوظة على صياغة البيانات، وإرسالها بالفاكس، ليضمن دخول الأخبار.
لا أعتقد أن «داعش خراسان» فعل شيئاً مختلفاً. لقد اجترح عملية إرهابية، بتكاليف بسيطة، وبفضلها تمكن من أن يعيد تمركزه في بؤرة الأحداث، وعلى رأس قائمة أولويات الأخبار والتحليلات، بل هو أيضاً فرض على المتخصصين إعادة اعتباره، وربما استطاع كذلك أن يحسن مركزه السياسي بين الأطراف الفاعلة في أفغانستان ما بعد الانسحاب الأميركي.
يذكرنا ذلك بما كانت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر، قالته قبل أربعة عقود عن علاقة الإرهاب بالإعلام، فقد رأت أن «الإعلام أكسجين الإرهاب»، إذ يمنحه القدرة على التنفس والبقاء وفرض شروطه في عديد الأحيان.
أراد «داعش خراسان»، الذي تشكل في عام 2013، بواسطة ثلة من المقاتلين الباكستانيين وبعض الأفغان المحبطين والمنشقين عن «طالبان»، أن يحقق الظهور، وأن يطرح نفسه أمام قطاع من المواطنين الأفغان والمقاتلين الأجانب باعتباره «فاعلاً جهادياً مؤثراً»، وأن يصبح عنصراً من عناصر التحليل السياسي لخريطة الفاعلين الجدد بعد الانسحاب الأميركي، فاختار لذلك طريقة بسيطة وفعالة: إحداث تفجير يوقع عشرات القتلى والجرحى بينهم أميركيون. ثم يتكفل الإعلام بإنجاز بقية المخطط.
يعتقد باحثون متخصصون في دراسات الحركات الراديكالية أن التغطية الإعلامية للحوادث الإرهابية كثيراً ما تصب في مصلحة تلك الحركات وتحقق أهدافها، وهو أمر يدعونا إلى مزيد من التفكير في الطريقة التي نستخدمها في تغطية بعض تلك الحوادث.
ولذلك، علينا أن نكون حذرين عند تغطية تلك الحوادث، عبر إحداث موازنة دقيقة بين حق الجمهور في المعرفة، وبين لعب أدوار ترويجية لمصلحة الإرهاب.