علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الكاسيت الإسلامي بين مصر والكويت

كان «الكاسيت» في مقدمة الوسائل التي انتشر عبرها خطاب الحركة الإسلامية وترسخ في المجتمعات الإسلامية. وكان له وهو في حداثة سنه في العالم العربي دور أساسي في اندلاع الثورة الإيرانية، وإطاحة حكم الشاه محمد رضا بهلوي. لهذا سُمّيت في الصحافة الغربية بـ«ثورة الكاسيت».
ولما ارتفع «الكاسيت» الإسلامي عن سن الحداثة، وجاوز حد الصغر، استطاع أن ينافس الإذاعات والتلفزيونات الحكومية، واستطاع أن ينافس «كاسيت» الأغاني و«كاسيت» الفيديو.
ومع هذا، فإن الإسلاميين الذين يدينون لكاسيتهم المسمى «الكاسيت الإسلامي» بمديونية عظمى، لم يكتبوا تاريخه حتى الآن.
ولا عجب عند الملمّ بأدبياتهم وتاريخهم العلمي والثقافي أنهم لم يكتبوا تاريخه. ولا عجب عنده أنهم يجهلون تاريخ اصطلاحات متعلقة بهم - على سبيل المثال - «إسلامي» و«صحوة» و«إسلامي سياسي» و«وعي حركي».
تفسير الأمر الأول أنهم ينظرون إلى أن الكتابة في موضوع تاريخ الكاسيت الإسلامي وما شابهه من مواضيع أخرى خاصة بهم، هم محيطون بها، نظرة براغماتية غليظة، إذ يعتبرونه انشغالاً بمواضيع ثانوية وهامشية، لا تنفع ولا تضر، ولا تقدم ولا تؤخر في مسيرتهم ونشر خطابهم بين الناس.
وتفسير الأمر الثاني هو أنه ليس لديهم عناية بعلم أصول الكلمات وتاريخ المفردات (الإيتومولوجيا)، رغم أنهم يقدمون أنفسهم بوصفهم «أهل التأصيل»، ويتهمون غيرهم بالافتقار إلى «التأصيل».
وكلا الأمرين يشير بإصبع واحدة إلى تشخيص واحد لحالة اشتهر الإسلاميون بها، وهي ضعف العلم، ونحافة الثقافة، ونحالة المنهج، وعوزهم إلى التعلق بروح العلم والشغف به.
إن مقترح زين العابدين الركابي الثامن الذي انطوى - من حيث إنفاذه وتحقيقه - على مفارقتين في سوق الكاسيت الإسلامي في السعودية، تحدثت عنهما في المقال السابق، هو الذي دعاني إلى تقديم بعض الإضاءات حول تاريخ الكاسيت الإسلامي في ذلك المقال.
وفي هذا المقال سأكمل هذه الإضاءات، وأسمي البلد العربي الذي نشأ فيه، وفي المقال القادم سأجيب عن سؤال: لماذا نشأ الكاسيت الإسلامي؟
هناك صعوبة في تحديد سنة بداية الكاسيت الإسلامي في البلد الذي نشأ فيه، ومنه انتشر سماعه في بلدان أخرى، لأن صحويي بلد المنشأ، وهي دولة الكويت، الذين غردوا في موقع «تويتر» من منطلق دفاعي بآلاء ونِعَم رواد الكاسيت الإسلامي على الكويتيين، والمقصود بهم الإسلاميون الذين وفدوا إلى الكويت من بلدان عربية، ما بين منتصف الستينات وأوائل السبعينات، لما كانوا هم في ريِّق شبابهم، لم يذكروا سنة البداية.
كما أن الشيخ أحمد القطان - وهو من فرسان الخطابة في الكاسيت الإسلامي في الثمانينات الميلادية، وهو مِن جيلهم، حينما يتحدث في المقابلات الإعلامية التي أُجريت معه عن بدء التزامه الديني وتحوله إلى الاتجاه الإسلامي ودور بعض أولئك الرواد في ذلك، وعن تعلمه منهم فن الخطابة الدينية في أول السبعينات الميلادية، لم يذكر - أيضاً - سنة البداية. لهذا سنؤجل الحديث عن بلد المنشأ إلى المقال المقبل.
لكن من الميسّر تحديد سنة بداية الكاسيت الإسلامي في مصر، على اختلاف في الرواية بين رواية متأخرة ورواية متقدمة.
الرواية المتأخرة صاحبها وائل لطفي. ففي كتاب صدر له مؤخراً عنوانه «دعاة عصر السادات: كيف تمت صناعة التشدد في مصر» يحدد السنة التي بدأ فيها تسجيل خطب الشيخ عبد الحميد كشك بسنة 1974.
والرواية المتقدمة صاحبها جيل كيبل. ففي كتابه «النبي وفرعون» يحدد السنة بسنة 1972.
وما يزكّي رواية جيل كيبل أنه عاصر خطب كشك ودروسه بعد أن تعلم اللغة العربية عام 1978 في دمشق. عاصرها عام 1979. وعاصرها عام 1980. وعاصرها عام 1981. عاصرها قبل اعتقالات شهر سبتمبر (أيلول) من العام الأخير، التي شملت اعتقال الشيخ عبد الحميد كشك. وكان في كتابه قدم وصفاً دقيقاً لما عاصره وشاهده.
يقول جيل كيبل: «ومن ناحية أخرى، كان حضور الشيخ كشك حضوراً طاغياً؛ ففي السنوات الأخيرة من حكم السادات، كان من المستحيل السير في شوارع القاهرة دون سماع صوته الجهوري. فإذا ارتقيت إحدى سيارات الأجرة الجماعية، فستجد السائق يستمع لإحدى خطب الشيخ كشك على جهاز الكاسيت الموجود بالسيارة. وإذا توقفت لتناول عصير الفاكهة على ناصية أحد الشوارع، وبينها ترشف الشفتان عصير القصب أو المانغو، تنهمر على الأذنين عبارات آخر الخطب التي ألقاها الشيخ تنبعث من جهاز التسجيل القديم الذي يمتلكه البائع، بين وصلتين؛ الأولى لكوكب الشرق، أم كلثوم، والثانية أغنية مشهورة لأحد المطربين الشعبيين. وإذا رجعت إلى منزلك ستسمع صوتاً منبعثاً من الشارع يطرق أذنيك بلغة القرآن الفصحى: فالبواب الذي يجلس على مقعده، ليلاً ونهاراً، يسمع لكشك. إنهم يستمعون لكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي حي المغاربة في مارسيليا. حتى إن إحدى المجلات ذات التمويل السعودي سمته (نجم الدعوة الإسلامية)».
وما عاصره وما شاهده ليس بعيد العهد عن بدء تسجيل خطب كشك على أشرطة كاسيت، وذلك في أثناء الأعوام التي أعد وكتب فيها دراسته عن الحركات الإسلامية في مصر، التي حصل بها على شهادة الدكتوراه عام 1983، والتي حملت عنواناً توراتياً، وهو «النبي وفرعون». وهذا الأمر سهل عليه التقصي عن تاريخ ذلك البدء من مصادر مصرية شفاهية، التي رجحت له أن التاريخ كان عام 1972.
إن الفصل السادس في ذلك الكتاب الذي خصصه لكشك، والذي حمل عنوان «طفولة الشيخ - خطبة الجمعة» عمل ريادي مميز في دراسة خطاب الكاسيت الإسلامي في العالم العربي. عمل لم تعقبه أعمال بمستوى عمله ولا دون عمله في سنوات علو صوت الكاسيت الإسلامي، ولا في سنوات ما بعد زواله.
تختلف نشأة الكاسيت الإسلامي في مصر عن نشأته في الكويت بأمور ثلاثة هي:
- أنه نشأ في مصر نشأة أحادية الجانب؛ فلقد نشأ من خلال أشرطة كشك فقط. لكن أشرطة كشك هي أول ما أشهرت وروّجت الكاسيت الإسلامي في مصر وفي العالم العربي وفي العالم الإسلامي.
- أن هذه النشأة كانت عفوية وارتجالية. ففكرة تسجيل خطب كشك جاءت بمبادرة من بعض جمهور خطبته يوم الجمعة. وكانوا في البداية يستنسخون أشرطتها بطريقة بدائية، ويقومون بتوزيعها.
- في فترة تالية، وهي فترة العمل التجاري المنظم، التي حضر جيل كيبل جزأها الأخير، يصف المشهد، كما يلي:
«وبعد أن يأخذ كلٌّ مكانَه. وبعد أن يتم الانتهاء من قراءة قرآن الجمعة عبر مكبرات الصوت. يعم السكون. وفجأة، مثل قصف الرعد، تنطلق عبارة: الحمد لله رب العالمين. وتبدأ خطبة الشيخ كشك. وتستغرق حوالي الساعة ونصف الساعة، أي ثلاثة أضعاف وقت الخطبة المألوفة، وتغطي وجهي شريط كاسيت من نوع ماكسل Maxell مدته تسعون دقيقة، ويستطيع المصلون شراءها فور انتهاء الخطبة... وخلال عدة أيام، تنتقل عبر طول العالم العربي وعرضه، يحملها الدعاة الشباب المتحمسون الذين يرسلونها بالطائرات».
- ولأن هذه النشأة كانت نشأة عفوية وارتجالية ومن قبل مصلين عاديين، فإنه لا توجد غاية دعوية محددة، كانت وراء نشأته، كما سنرى في سبب نشأته في الكويت.
يذكر توفيق مديني في كتابه «الجزائر - الحركة الإسلامية والدولة التسلطية» أنه «اعتباراً من العام 1976. دخل الشيخ عبد الحميد كشك على الخط، بأشرطة الكاسيت التي كان يسجلها، وتُوزّع على نطاق واسع بين الشباب في الجزائر».
ولا نستطيع أن نعمم هذا التاريخ على بقية بلدان المغرب العربي، فقد يكون بعضها سبق الجزائر أو تأخر عنها قليلاً. فالخبر اليقين عن أهل ليبيا وأهل تونس وأهل المغرب؛ فهم الذين يعرفون تواريخ اجتياح خطب كشك بلدانهم بدقة.
أما وصول أشرطة كشك إلى بعض بلدان المشرق العربي، فقد سبق ذلك التاريخ. وكان وصولها إليها يأتي عن طريق الكويت.
ففي السعودية مثلاً في بعض مناطقها قبل إنشاء محل تسجيلات «اليمامة» في آخر أسبوع من عام 1976، كان «فتية الصحوة الإسلامية» - وكانوا وقتها قلة قليلة - عندما يذهبون إلى البر للتنزه والترويح عن أنفسهم، يصطحبون جهاز تسجيل وأشرطة كاسيت تحوي خطباً ومواعظ ودروساً دينية لدعاة مقيمين في الكويت، ومعها أشرطة كشك وفدت إليهم من الكويت.
في حوار صحافي نشر في آخر عدد من مجلة «المسلمون» بتاريخ 27 - 08 - 1982 صنعه الصحافي والكاتب المصري المغترب في أوروبا، حسين قدري، كان عنوانه لافتاً: «حديث لم يحدث... وحوار لم يتم»، وكان حينها يشغل منصب «المحرر الأول» في هذه المجلة، حدثنا أنه كان في إجازة بمصر، وكان في دفتره توجيهات من رئيس تحرير مجلة «المسلمون» زهير الأيوبي بأن يلتقي بعدد من الشخصيات الإسلامية محددة بالاسم، من بينها الشيخ عبد الحميد كشك.
وفي لقاء له مع أقرب الأصدقاء إلى نفسه - أخبرنا أن عددهم أربعة، وأنه يلتقي بهم في الأسبوع مرتين - سألهم إن كان أحد منهم يعرف رقم تليفون الشيخ كشك أو كيف السبيل إلى الاتصال به. فسأله المحامي فايز محمد علي: لماذا؟ فحكى لهم السبب. فقال له المحامي فايز: سأحدد لك موعداً معه. قال قدري: وهل تعرفه؟ قال: طبعاً أنا محاميه!
في اليوم التالي، هاتفه فايز، وأخبره بالموعد الذي اتفق عليه مع الشيخ كشك، وكان الموعد في عصر ذلك اليوم.
ولما ذهبا إلى شقته في عمارة بالدور الثالث، قالت لهما أسرته: «إنه غير موجود. فلقد اضطر الشيخ إلى السفر إلى قريته فجأة، ظهر اليوم، لأسباب عائلية!». أخذه المحامي فايز إلى بيت شقيقه الأكبر، المحامي عبد السلام كشك، وكان بيته يبعد خطوات عن العمارة التي فيها شقة الشيخ كشك الذي يصغره بخمس سنوات، ليساعدهما في إنجاز الموعد الذي أخل الشيخ به، والذي اعتقد محاميه فايز أنه ربما يكون نائماً، ونسي أن يخبر أهل بيته بالموعد، ولم يشاءوا هم إزعاجه.
وهكذا كان تفسير شقيقه الأكبر؛ فلقد دُهش لما أخبروه بما حصل لهما أمام شقته. وفسر دهشته بأنه كان معه في الصباح، ولم يذكر له شيئاً عن نيته السفر إلى قريته، بل إنه حين ذكّره بموعد مع الصحافي القادم من لندن، قال إنه متذكر الموعد، وإنه في انتظاره.
قفزت على تفصيلات حدثنا بها حسين قدري في حواره «حديث لم يتم... وحوار لم يتم»، وسأقفز على تفصيلات أخرى، وأقول: إن الشيخ كشك تنصل من موعد ضربه لهما لسبب رأى محاميه فايز أنه يعود إلى أن الشيخ بعد اعتقاله الأخير، في أواخر عهد الرئيس السادات، قد أصبح يخشى لقاء الغرباء، ويعتقد أنهم ربما يكونون مدسوسين عليه من الأمن.
حسين قدري، وهو يشرب القهوة مع صاحبه في بيت عبد السلام كشك الذي أرسل ابنه إلى بيت عمه ليستطلع الأمر، وفي انتظار عودته دار بينه وبين عبد السلام حديث حول الشيخ كشك. وهذا هو معنى عنوان حواره الصحافي.
هذا الحوار الصحافي حوى معلومات مهمة عن الشيخ كشك، لكنه حوار غير معروف عند الذين كتبوا عن كشك، مع أن حسين قدري أعاد نشره في كتابه «حوارات حسين قدري».
وسأقتطف بعض المعلومات من أسئلة حسين قدري وإجابات شقيقه الأكبر عبد السلام كشك: «متى أصبح فضيلة الشيخ مشهوراً؟ (المقتطف الأول..) من قبل الاعتقال الأول، يعني منذ عام 1962 تقريباً، وكان عمره نحو 28 سنة. وكان جمال عبد الناصر قد كرّمه في نفس السنة ثم اعتقله سنة 1966. ولدينا صور للشيخ عبد الحميد وهو يتسلم جائزة عيد العلم من يد الرئيس جمال عبد الناصر».
هذه المعلومة ترد على نحو مغشوش في كتاب جيل كيبل، فهو فيها: «وفي عام 1961، وفي الثامنة والعشرين من عمره، مثّل الأزهر في عيد العلم»، لكن التاريخ كان أدق فيها، وقد غلط أخوه الأكبر في التاريخ، لأنه اعتمد على ذاكرته.
أما لماذا وردت في ذلك الكتاب على نحو مغشوش؛ فلأن المصدر القريب من الشيخ كشك الذي أمد جيل كيبل بها أراد لها أن تكون كذلك، لغرض في نفس الشيخ! فالشيخ كشك لم «يمثّل» الأزهر في عيد العلم، وإنما كان ضمن كوكبة المتفوقين في 21 سبتمبر من عام 1961.
إن الشيخ كشك في سيرته الذاتية لم يتطرق لهذه المعلومة من قريب ولا من بعيد، ليس لأنه يحنق ويحقد على جمال عبد الناصر بسبب سجنه في عهده في قضية تنظيم 1965، من عام 1966 إلى عام 1968، ولا لأنه بعد الإفراج عنه صار يصدر عن فكر إخواني قطبي، وإنما لأنه مع تلك المعلومة سيتذكر أنه لما كان تخرج بتفوق في فرع التخصص بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، مد له عبد الناصر يده ليصافحه في حفل تكريم المتفوقين، استدنى الطالب المتفوق والخطيب المفوه (كان في ذلك الوقت إماماً وخطيباً في مسجد الطيبي) الكفيف، بجسمه الضئيل وقامته القصيرة، جمال عبد الناصر ذا الجسم العريض والقامة المديدة، ليضمه ويعانقه، وتمكّن من ذلك بمشقة، فانهال عليه لثماً وتقبيلاً. وظل ممسكاً بكلتا يديه، يدَ جمال عبد الناصر اليمنى، يمطره بالولاء والمدح. وعبد الناصر يحاول أن يخلص يده من أسر يديه بلطف، لأن هناك متفوقين آخرين ينتظرون دورهم في التكريم، ولم يفكَّ الطالب الكفيف يد رئيس الجمهورية من الأسر إلا بعد لأي.
هذه الذكرى لم يرد الشيخ كشك أن يستحضرها وهو يملي سيرته، فماذا سيقول الناس عنه، وهو أيام خطبه كان يقذف عبد الناصر وزمن حكمه بشتائم شواظها من نار؟!
ولمن أراد أن يتأكد من صحة وصفي لتلك الذكرى، فليشاهد فيلماً على «اليوتيوب» مدته سبع وعشرون ثانية، عنوانه «تكريم الشيخ عبد الحميد كشك في عيد العلم 1961».