وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

تسعير النفط... سياسة أم اقتصاد؟

تسعير النفط موضوع معقد جداً فوق ما يتوقعه الجميع. أولاً هناك العديد من الخامات التي تختلف نوعياتها بين الثقيلة والخفيفة والحامضة والحلوة. وكل خام يختلف عن الآخر بشكل جذري من ناحية قيمته عند التكرير؛ بحيث لو تم تغيير نوع الخام؛ فإن المصفاة لن تتمكن من إنتاج الكمية المطلوبة من الديزل أو وقود الطائرات.
هذا الأمر بالتحديد كان عاملاً مؤثراً في كل مرة تُفرض فيها عقوبات على النفط الإيراني، حيث إن المصافي التي تعمل بهذا النوع من النفط لم تتمكن من إيجاد النوع الملائم الذي يعوضها عن نفط إيران، ولهذا لجأت إلى أقرب شيء له مثل «خام الأورال» الروسي، وهذا عزز موقف خام روسيا في أوروبا؛ حيث إن روسيا لديها موثوقية أعلى ونفطها يتدفق بلا توقف إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية نظراً لأن النفط يُنقل بالأنابيب وليس بالسفن.
ولهذا؛ فإن تسعير النفط وتسويقه مسألة سياسية في بعض الأحيان؛ حيث تلعب العوامل الجيوسياسية دوراً عند التفاوض مع البائعين من الدول المضطربة سياسياً والمعرضة للعقوبات أو الانقطاعات.
في الوقت ذاته؛ لم تتمكن المصافي الأوروبية من تعويض الخامات الليبية، مثل «خام السدرة»، والتي تمتاز بجودة عالية من ناحية الحلاوة (مستوى الكبريت في النفط) ومن ناحية الثقل (مدى كثافة ولزوجة النفط)؛ إذ إنها خامات حلوة وخفيفة يصعب جداً تعويضها عند أي انقطاعات لها، والأقرب لها هي الخامات الأميركية التي تُنتَج من النفط الصخري، وهذا مما جعل النفط الأميركي يصل إلى أوروبا في السنوات الأخيرة؛ حيث يجري تعويض ارتفاع تكاليف الشحن من الأطلنطي إلى القارة الأوروبية من خلال الحصول على شحنات ثابتة.
هذه العوامل تؤثر كثيراً في كيفية تسعير النفط؛ إذ إن لكل نوع من النفط سعراً بحسب كمية المنتجات التي تُشتق منه، وبحسب السوق وطبيعتها. ولنضرب مثالاً على ذلك؛ فإن الهند سوق كبيرة للديزل، ولهذا لا ترغب المصافي الهندية في النفوط الخفيفة؛ بل تميل إلى النفوط الثقيلة والمتوسطة؛ لأنها عند التكرير تعطي كميات أعلى من الديزل. بينما في اليابان السوق هناك تحتاج لخامات خفيفة؛ إذ إنهم يحتاجون إلى النافثا (أحد مشتقات النفط الخفيفة) بشكل كبير لاستخدامه في عمليات أخرى كلقيم لمصانع البتروكيماويات، حيث تعتمد هذه الصناعة هناك على اللقيم السائل أكثر من الغاز.
وفي كل شهر ميلادي تستخدم شركات النفط الحكومية معادلات معقدة جداً لتسعير النفط، تُبنى على معطيات كثيرة معقدة. فعلى سبيل المثال؛ عندما يريد مشترٍ في الولايات المتحدة شراء نفط الآن من «أرامكو السعودية» في أغسطس (آب)؛ فإنه سيشتريه بناء على تحميله في سبتمبر (أيلول) بناء على الأسعار المعلنة في أغسطس لشهر سبتمبر. ولكن حتى تصل شركة حكومية للمعادلة المناسبة؛ فعليها تقييم فرق السعر بين شهر سبتمبر وشهر نوفمبر (تشرين الثاني)؛ إذ إن النفط سيصل إلى البائع ويتم تفريغه في أكتوبر (تشرين الأول)، ويكرَّر ويباع منتجات في نوفمبر.
هذه التعقيدات كلها سبب في تعقيد التسعير وقيام سوق العقود الآجلة وظهور المشتقات، مما يجعلنا لا نستطيع النظر إلى الأسعار بمعزل عن السياسة. والخلاصة هنا أن سوق النفط وأسعاره عملية معقدة وفنية وحساسة، ولهذا؛ فإن العوامل السياسية تجعل بيعه وتسعيره وتسويقه أمراً صعباً أو سهلاً. وعندما لا تستطيع المصافي حساب مخاطرها وتكاليفها بشكل جيد؛ فإن هذا ينعكس على سعر بيع المنتجات، وهو مما يجعل الدول تضغط سياسياً من أجل البحث عن بدائل للنفط أو الحصول على شحنات مستقرة إما عن طريق الاتفاقيات السياسية؛ وإما عن طريق الاستيلاء على الحقول عنوة مثل ما حدث في دول كثيرة منذ زمن الاستعمار حتى اليوم. ولكن لا يوجد بديل حقيقي للنفط، ولهذا سيظل الصراع قائماً لفترة طويلة.