الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

أفغانستان: عَود على بدء

لو شاءت الولايات المتحدة أن تفتح اليوم دفاتر المكاسب التي حققتها والخسائر التي تكبدتها بعد عشرين عاماً من وجود قواتها في أفغانستان، فماذا ستجد؟
عودة إلى نقطة الصفر، أو إلى المربع الأول كما يقول الاستراتيجيون، ومخاوف وقلق من عودة أفغانستان إلى ما كانت عليه عندما غزتها القوات الأميركية بعد ارتكاب أسامة بن لادن جريمة العصر، في نيويورك وواشنطن، في صباح ذلك النهار المظلم في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
كلنا نذكر الهدف الذي وضعته إدارة جورج بوش الابن آنذاك لغزو أفغانستان: أن تضمن عدم استخدام هذا البلد مرة أخرى كملجأ آمن لجماعات تهدد أمن أميركا.
ليس هذا فقط. بل أضافت واشنطن هدفاً آخر: إن الحرب على تنظيم «القاعدة» الذي وفرت له «طالبان» ولزعيمه بن لادن الملاذ الآمن وحرية الحركة، سوف تستمر حتى القضاء على هذا التنظيم.
لا القضاء على «طالبان» تحقق، بل هي اليوم الطرف الذي «تتفاوض» معه واشنطن على مستقبل أفغانستان. ولا ضمنت واشنطن عدم توفير ملاذ آمن للهجمات، ليس فقط على أراضيها وقواتها، بل على القوى التي تعتبرها «طالبان» حليفة للولايات المتحدة. وكثيرة هي التقارير الاستخبارية التي نقرأها (وهي تقارير غربية) تؤكد الروابط التي لا تزال قائمة بين «طالبان» وكل من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وما يجمع الثلاثة من أهداف معلنة تتصل بمواصلة الحرب على القوات الأميركية، على كل الجبهات، «حتى خروجها من كل العالم الإسلامي».
الآن، بعد خروج القوات الأميركية من أفغانستان، الذي اختار الرئيس جو بايدن تاريخاً سيئ الصيت في الذاكرة الأفغانية (11 سبتمبر) لإتمامه، وبعد التقدم السريع لقوات حركة «طالبان» بقيادة محمد يعقوب، ابن الملا عمر الذي جاءت الطائرات الأميركية تطارده في ذلك الزمن في مدينة قندهار، بعد ذلك سوف يصعب أن تجد الولايات المتحدة ما تستطيع أن تفاخر به من مكاسب يمكن أن تكون قد تركتها وراءها في أفغانستان وترسخت بعد عقدين من وجودها في هذا البلد. بل إن ما تحقق، على صعيد التعليم وحقوق المرأة وحرية العمل السياسي ووقف أعمال العنف والقتل، كله الآن معرّض للانهيار مع عودة الآيديولوجيا المتطرفة التي تنتمي إلى قرون سحيقة، إلى التحكم بالقرار في أفغانستان.
تقول فوزية كوفي، وهي عضو في وفد الحكومة الأفغانية الذي يشارك في «مفاوضات السلام» التي تجري في الدوحة مع «طالبان»، إن الهدف الحقيقي لهذه الحركة ليس التوصل إلى السلام ولا تحقيق انتقال سلمي للسلطة تشارك فيه أسوة بسائر القوى الأفغانية، بل هدفها هو وضع أسس آيديولوجيا متطرفة سوف تعيد البلاد إلى السنوات المظلمة من أواخر تسعينات القرن الماضي.
وليس مستغرباً أن يكون هذا ما سينتظر مستقبل أفغانستان. إذ ما الذي تغير في تفكير جماعة «طالبان» وفي أهدافها كي نتوقع شيئاً مختلفاً؟ وأين ذهب الجهد الذي كنا نسمع أنه بُذل خلال السنوات العشرين الماضية لقيام جيل جديد في أفغانستان، قادر على مواجهة أفكار «طالبان» المتطرفة، ودعم نظام سياسي قابل وصالح لاستيعاب مختلف التيارات الحزبية والقبائل، وتمثيلها تمثيلاً عادلاً في مؤسسات الدولة؟
تعتبر إدارة جو بايدن أن مواجهة «طالبان» هي مسؤولية الشعب الأفغاني والقوات الأفغانية. وتقول: هذه بلادكم وعليكم الدفاع عنها. وهذا شعبكم وعليكم حمايته. وفي النهاية عليكم أن تختاروا القيادة التي تريدونها لبلادكم.
وهذا قول صحيح في مطلق الأحوال. ويلقي مسؤولية كبيرة على الحكومة الأفغانية لا يبدو أنها مؤهلة لها. غير أنه يعكس أيضاً قراءة خاطئة للوضع في أفغانستان من قبل دولة عظمى أدارت شؤون هذا البلد على مدى عقدين من الزمن.
وأبسط دليل على ذلك ما تقوله اليوم وزارة الخارجية الأميركية عن تقديرها لمستقبل الوضع في أفغانستان، رغم تقدم قوات «طالبان» وسيطرتها على معظم المدن الرئيسية والنقاط الحدودية المهمة في الشمال والجنوب الغربي مع إيران وأوزبكستان، إضافة إلى غزني القريبة من الحدود مع باكستان، ورغم التقارير التي تشير إلى توقع سيطرة «طالبان» على العاصمة كابل في أقل من ثلاثة أشهر. رغم ذلك لا تزال الخارجية الأميركية تؤكد أن من الممكن وقف تقدم «طالبان»، وأن انتصارها النهائي ليس حتمياً، كما أن القوات الأفغانية متفوقة من حيث العدد بشكل كبير وقادرة على إلحاق خسائر أكبر بمقاتلي الحركة.
هل هذا سوء تقدير أم فشل استخباري فظيع؟ وإذا كانت هذه هي حقيقة الصورة التي كوّنتها واشنطن عن الوضع في أفغانستان وعن قدرة القوات الأفغانية، فليس مستغرباً أن نشهد الانهيار الكبير لحكومة الرئيس أشرف غني في هذه المعارك، لأن التقييم الحقيقي للقدرات وللإمكانات العسكرية لم يكن تقييماً واقعياً. يضاف إلى ذلك أن رهان واشنطن على قدرة الجيش الأفغاني لا تدعمه الوقائع على الأرض، مع فرار عدد كبير من عناصر هذا الجيش أمام تقدم «طالبان»، تاركين وراءهم دباباتهم وأسلحتهم، وهو ما يذكّر بفرار الجيش العراقي أمام تقدم تنظيم «داعش» وسيطرته على مدينة الموصل في يونيو (حزيران) 2014.
رغم ذلك، لا يجد الرئيس جو بايدن أي مبرر أو سبب للشعور بالندم على ترك أفغانستان، بل يمكن القول، على تسليمها لـ«طالبان».
وربما كان من حق الرئيس الأميركي أن ينفض يده من هذا البلد متذرعاً بأن وظيفة أميركا ليست أن تقرر مستقبل أفغانستان نيابة عن شعبها. ولكن الرسالة التي يوجهها هذا الانسحاب لحلفاء واشنطن ولخصومها على السواء هي رسالة بالغة التعبير، وتُختصر بأنها غير مستعدة للوقوف مع حلفائها إلا إذا كانت مصلحتها تقتضي ذلك. كما أنها، وهذا الأخطر، لا ترى حرجاً في ترك ساحات الصراع لخصومها، يستفيدون منها ويوظفون نفوذهم فيها على حساب مصالح أميركا وضد خصومها.
وها هي إيران وروسيا والصين تتأهب الآن منتظرة ما ستؤول إليه أحوال أفغانستان وكيف يمكن قطف ثمار هذا الانسحاب. فهذه دول لم تعتَد أن تتخلى عن حلفائها كما تفعل واشنطن. وفي هذا الوقت تعود الاستخبارات الباكستانية إلى فتح ملفاتها القديمة، ومراجعة أوراق الحلفاء من قادة «طالبان» و«القاعدة»، الذين حمتهم واستخدمت علاقاتها معهم، وآخرهم ذلك الرجل الذي كان مقيما في آبوت آباد، على بعد خطوات من مقر الجيش الباكستاني.