لم يجد أبو الفرج الأصفهاني أفضل من تقديم يقوله لأحد كتبه سوى هاتين الكلمتين: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا، إلا قال في غده: لو غير هذا المكان لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل»!
ولم يكن الأصفهاني يقصد من كلامه الجميل سوى أن الكثير من البشر أو بعضهم يسيطر عليهم دائما مفهوم الكمال، وأن العمل الذي قدمه مهما كان عظيما ورائعا فإن به بعض النقص والخطأ.
ولعل شجاعة الرجل تنقص مئات البشر اليوم الذين يفتقدون أبسط مقومات الكمال والإتقان في أعمالهم، ومع ذلك فهم يفاخرون دائما بأن الكمال نفسه يتعلم منهم ويتلقى عشرات الدروس على أيديهم!
إذا كان الكمال لله وحده، فإن مشكلتنا أو مصيبتنا الأزلية هي أننا لا نشعر بالنقص، وإذا شعرنا فإننا نتجاهله أو نسكت عنه، ونقول أحيانا: «ماشي الحال» أو من يدرى! وأقول إن هذا ينطبق على الجميع ولا أستثني أحدا وأولهم نفسي!
فكثيرا ما كتبت مقالات وكتبا أشعر بعد لحظات أنني استعجلت بها، وأن المفروض أن أسعى وراء هذا أو ذاك من المعلومات وغيرها، وأحيانا أغضب من نفسي على جملة أخيرة جاءت بعدها جملة أجمل منها، ولكن بعد ثوان قليلة فقط من إرسال المقال إلى الجريدة!
وفي بعض الأحيان أقول لنفسي إن هذا هو أجمل مقال كتبته في حياتي وأنتهي من تصحيحه، لكنني عندما أعيد قراءته مضطرا أسخر في داخلي قائلا: ألم تستطع أن تكتب أسوأ من هذا؟!
وهناك غرور كثير في الدنيا يتمتع به أشخاص لا يستحقون حتى التواضع نفسه! وهؤلاء في رأيي هم مثل الذين يحاولون تسلق جبال شاهقة مع أنهم لا يعرفون ما هو الجبل أصلا!
وما بين الغرور والثقة الزائدة بالنفس شعرة واحدة تفصلهما عن بعضهما، إلا أن العالم مليء، خاصة عندنا، بأولئك الذين لا يعترفون بالحواجز والفوارق، فما بالكم بالخيوط.
وأتذكر أنني قرأت مرة للكاتب الآيرلندي الشهير جورج برنارد شو كلاما عن هذه المسألة يقول فيها: «في رأسي أفكار لو قدر لها أن تتحول إلى كلمات لكانت أجمل ما كتبت في حياتي».
وطبعا لا أحد يعرف تلك الأفكار التي شغلت بال شو في أواخر عمره، لكن الأكيد أنه لم يتمكن من إنجازه، وبقيت في رأسه؛ لأنها لم تصل إلى درجة كمال الكتابة الذي كان يريده!
غير أن علة الكمال والنقص تطال الجميع، كبارا وصغارا، عمالا ومبدعين، عباقرة وزبالين، حتى إن الشاعر الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف لم يجد ما يقول للصحافة عندما بلغ الثمانين من عمره سوى: «أطلب من الله أن يمد في عمري سنة أخرى، لأجد الوقت الكافي لإعادة النظر في المسودات التي كتبتها، وأعتبر حياتي كلها مسودة يجب تصحيحها وإعادة النظر فيها».
لكن الأجمل كان الشاعر التركي الشهير ناظم حكمت الذي قال: «إن أجمل الأشعار هي التي لم تكتب بعد.. وأجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد».
7:52 دقيقه
TT
مسودة حياة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة