بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

هَوَس تدين وجنس

ماذا تفعل عندما تُصدَم بعنوان مثير على موقع أخبار ينطق باسم هيئة ذات وقار، يصيح بما يلي: «جنس مقابل عمليات تجميل»؟ من منطلق الاهتمام المِهني البحت، الأرجح أن تفتح صفحة الخبر كي تطالع التفاصيل. بيد أن ذلك يحدث، أيضاً، مع غير الإعلاميين، إما بقصد المعرفة، أو لمجرد إشباع رغبة فضول طبيعية عند الناس أجمعين. للوهلة الأولى، مشروعٌ أن تتساءل؛ تُرى ماذا دهى كثيرين حتى تعميهم الغرائز حد أنها ليست تشبع، ولا تكتفي باتباع الطريق السوي، فتجد أكثرهم يتجاوز الشرائع المُتفق عليها بين البشر كافة، للوصول إلى كل ما هو غير سوي. مِهنياً، عندما صادفني العنوان المذكور، الأحد الماضي، ارتأيت، أن أطلع على خلفيات الحدث. لمجرد أن فتح الموقع الصفحة، أدركت أنني أمام موضوع مختلف، فالقصة تتحدث عن استغلال تجار مخدرات في المكسيك لنساء يرغبن في إجراء عمليات تجميل، لكنهن صديقات لهم، وبالتالي يسددون النفقات لهن. الأمر ليس بحاجة إلى ذكاء خارق كي يتضح أن ذلك عنوان وُضع وفق أسلوب العناوين المثيرة، المعروف عالمياً بمصطلح SENSATIONAL HEAD LINES»»، والتي يلجأ إليها بعض حرفيي المطبخ الصحافي عن عَمد، أحياناً، ومع سابق إصرار، وبإغماض عينين مُحكم عن شبهة ارتكاب «خطيئة» تضليل القارئ من حيث عدم تطابق مضمون القصة التام مع العنوان، إذ المهم هو لفت النظر إلى حدث محدد، حتى إذا اقتضى الإجراء المُتبع نصب كل ما شُرع من الفِخاخ، صحافياً، لشد الجمهور نحو خبر مُعين.
رغم ما سبق، يظل لمضمون ذلك العنوان حضوره في ذاكرة كل متابع لما يقع من قصص مماثلة. الواقع الموثق يقول إن جرائم الاستغلال الجنسي الممارسة من قبل أشخاص يُفترض أنهم مؤتمنون على أداء واجبات ومهام إنسانية، زادت خلال السنوات الأخيرة بشكل مُفزع، في أماكن تشهد أكثر من نزاع بمختلف أنحاء الأرض. فقد جرى التحقيق في مزاعم انتهاكات جنسية ارتكبها جنود يرتدون القبعات الزرق، لأنهم منضوون تحت لواء قوات حفظ السلام الدولية، في أماكن عدة حول العالم. وكشف أكثر من تقرير لمنظمات إعلامية فضائح انتهاك بعض مسؤولي توزيع الإغاثات الإنسانية، أعراض نساء في غير مكان تشتعل فيه حرب، أو نزح إليه لاجئون. عندما يصبح إكراه امرأة على تقبل الجنس مقابل وجبة غذاء، أو جرعة دواء، مقبولاً في ضمير شخص ما، هل يكفي الصياح أن ذلك الشخص مهووس بغريزة الجنس، مريض العقل، مشوه النفس، ومختل التفكير؟ كلا، ليس كافياً، لأن الندوب التي تصيب ضحايا هكذا جرائم سوف تبقى معهن بقية أعمارهن. الحل؟ لستُ أدري، إنما هي مهمة كل ذي اختصاص يجلس في موقع يعين على إيجاد ناجع الحلول فعلاً.
جانب آخر من جوانب الهوس الخطير، يتمثل في هَوَس التدين عند بعض الناس في كل الأديان. يمكن ملاحظة أثر هكذا هَوَس على حياة المهجوس به في جوانبها كافة. سوف تجده يكلف النفس فوق طاقتها، سواء إذ يلتزم بأداء المفروض من الواجبات الدينية في أوقاتها، وهو أمر محبذ، بلا جدال، حتى لو فيه إجهاد للذات، أو عندما يشرع في تطبيق مبدأ التطوع، إنما بلا التفات لما يُفترض أن عليه الالتزام بتأديته، في حينه، بلا تأجيل، وبلا تكاسل، إزاء أقرب الناس إليه، مثل أفراد أسرته ذاتها، أو ما ينتظره من واجبات العمل، أو تجاه المجتمع، إذ ذاك سوف يؤدي هوَس التدين إلى هضم حقوق آخرين، وهو ما يدفع به إلى خانة التساؤل؛ أيجوز أم أنه غير جائز؟
بيد أن تلك ممارسة تحتمل أن تُدرج في خانة التصرف الفردي، فتبقى ضمن الإطار الخاص بمنهج حياة كل شخص. الأخطر هو اتخاذ هوَس التدين قالب منهج يزعم أن طبقات المجتمع كلها أمست تمارس من الخروج عن الدين ما يوجب التدخل دينياً، من قِبل جماعات تُفوض لنفسها حق هكذا تدخل، بالعنف وبقوة السلاح. ثم تحت مزاعم إصلاح يُروج لها باسم الدين، يجري الأخذ بمنهج إكراه البشر على أسلوب تدين تلك الجماعات تحديداً، بدعوى أنه هو الأصح، وما عداه مُنكر. حدث هذا عبر الأزمان جميعها، مذ زمن الخوارج، وفي مختلف الأديان، لكنه استشرس كثيراً منذ مطلع القرن الحالي. مع ذلك، في أول المطاف وآخره، يذهب الزُبد جُفاء، ويمكث ما ينفع الناس حقاً.