د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ماذا فعل «كوفيد» بالدنيا؟

جميع البشر يعرفون جيداً ماذا فعل «كوفيد – 19» ببلادهم وبالبشرية، والأرقام باتت معروفة ويجري ترديدها صباح مساء عن عدد الوفيات والمرضى وحجم الكارثة الاقتصادية، وحتى المدى الذي جاء فيه عائد التعامل مع واقع صعب ومعقد باللجوء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى العالم أو الخلاء الافتراضي. جميع بنوك المعلومات، ومحطات الرصد اليومي، لمست الكثير من الحقائق المباشرة التي راحت تكدسها في جداول ورسوم توضيحية وبيانية ممتلئة بالمنحنيات والأعمدة التي تظهر نقاط الذروة والخفوت. ما لم يرد في كل ذلك هو الإحساس بالعالم والعولمة والذي لا يتيسر إلا برحلة تدفع بالإنسان في مسار يتخلص فيها من الدلالات المباشرة داخل الوطن إلى حالة الإنسانية في لحظة انتشرت فيها عولمة مرض نتيجة حركة وانتشار فيروس متواضع الحال. وفي الأسبوع الماضي بدأت هذه الرحلة العابرة للبحر (الأبيض المتوسط) والمحيط (الأطلسي) عبر أربعة مطارات إلى نطاق آخر داخل الولايات المتحدة. ما يلفح الإنسان في هذه الحركة هو حالة المطارات التي بعد أن كانت المجال الحي للعولمة البشرية، أصبحت قصراً من قصور الأشباح ومصاصي الدماء الذين لا تأخذهم بأحد رحمة. لم يعد المطار الواحد وحدة «عولمية» يجتمع فيها الناس من كل حدب وصوب وفج عميق، ذاهبين وقادمين، لا يوجد بينهم بأس في مطار ما أن تتلاقى عندهم مصالح الجلاء والمكوث وتلاحم الحضارات وتنافسها وصراعها. بشكل ما بدت مطارات العالم وكأنها سفينة النبي نوح الذي اجتمع فيها ليس من كل زوجين اثنين وإنما عشرات من الأزواج والألوان والعقائد. وعندما عمّت «العولمة» التي جاءت نتيجة تكسر الأسوار والحواجز الاقتصادية والتكنولوجية والفكرية بين الدول، فإن المرجعية العالمية أصبحت «الحرية» في السوق والرأي والمعتقد، وما بات يعد حقوق الإنسان الأساسية. وعلى أساس هذه الفكرة ظهرت أفكار أخرى عن «التدخل الإنساني»، والتحول الديمقراطي، وعالمية الحقوق الإنسانية، والمحكمة الجنائية الدولية، وهكذا أفكار ومؤسسات.
انتهى ذلك كله أو تراجع إلى حد كبير عندما تباعدت الجموع الإنسانية بعد لقاء مزدحم وصارت المطارات موحشة وممتلئة بالأشباح والعفاريت والجان. وبعد أن كان الإرهاب قد قام بفرض أبواب معدنية للعبور تبحث عن المتفجرات ومعادن بنادق محشوة بالرصاص، فإن البحث بات قطعياً عن الحاملين الفيروس الخفي في دماء وألياف البناء الإنساني. أصبح على الإنسان أن يكون حاملاً لشهادات النقاء من البلاء، وأن يضع فوق أنفه وفمه كمامة وقناعاً، يأخذانه من دائرة الإعلام والإعلان إلى دائرة أخرى للمجهول الذي لا يعرف بسمة ولا ضحكة. بدت هناك فجوة كبيرة بين عالم كان قد تغير بالفعل في اتجاه التعايش الإنساني بين البشر تبدّى في انتقال السلع والأفكار ومعهما البشر، وعالم آخر يسوده الخوف والتوجس من الآخر. وبشكل من الأشكال كان العالم يعيش تناقضاً حاداً بين آليات اقتصادية وتكنولوجية تضغط بشدة من أجل مزيد من التفاعل والتواصل والاتصال بين الناس؛ وحالة مرهقة من النفور والرفض للنتائج الثقافية والحضارية الناجمة عن هذه الحالة. وفي يوم من أيام القرن التاسع عشر قال كارل ماركس، ومعه طائفة أخرى من المفكرين، إن حدوث تناقض ما بين التطور في قوى الإنتاج، وحالة علاقات الإنتاج، يمكنه أن يولد صراعاً من نوع أو آخر. وإذا كان الصراع الذي رآه كان بالضرورة صراعاً طبقياً، فإنه في إطار العالم الفيروسي الذي نعيشه صار صراعاً ثقافياً وحضارياً قيمياً مع الآخر المختلف بطريقة ما حتى ولو كان الجار الذي يجلس على المقعد المجاور في طائرة.
الولايات المتحدة التي وصلت إليها بدت مرهقة إلى حد كبير، وإذا كان الرئيس ترمب قد فقد السيطرة على الفيروس حتى توفي أكثر من 600 ألف أميركي في عهده، فإن الرئيس بايدن يبدو عليه أنه فقد السيطرة على اللقاح. هذا الأخير قام بما كان يجب عليه القيام به وهو أن يمارس الضغوط لإنتاج اللقاح، وأن يضع الخطط لتوزيعه على من يهمهم الأمر من المواطنين حتى تتحقق «مناعة القطيع». ولكن ماذا يكون الحال إذا أخذ الفارس حصانه إلى البحيرة البعيدة ولكنه لم يشرب، وقرر المقاطعة كما حدث في الكثير من الولايات الأميركية التي وجدت أن الحال ما هو إلا نتيجة لمؤامرات كونية. لم يعد خطاب المؤامرة ذنباً عربياً أو من ذنوب العالم الثالث، وإنما صار خطيئة أميركية يجد فيها الرئيس الأميركي نفسه في مواجهة مع «فيسبوك» الذي كان حتى قبل وقت قريب أحد أهم علامات صحة النظام العالمي، والآن فقد صار ساحة كبرى لنشر الشائعات عن مؤامرات أشرار لا يمكن الإمساك بهم.
على ماذا سوف يتمخض عن ذلك كله؟ الانسحاب الأميركي عن العالم الذي كانت له دلائل وقسمات سابقة على ظهور الـ«كوفيد» فإنه صار سيلاً جباراً لا يبحث حتى عن أسباب. قرار بايدن بالخروج من أفغانستان قبل 11 سبتمبر (أيلول) المقبل أياً كانت الأوضاع على الأرض بين الحكومة وحركة «طالبان» لا يدل فقط على حالة من فقدان العود، وإنما على حاجة إلى بدء جديد لأمر ما. أصبح الأفغان في مواجهة مع بعضهم بعضاً، وربما وهو الأدق في مواجهة مع أنفسهم. فهل يبزغ من تلك الأوضاع التراجيدية للوباء والجائحة نور أن يتعلم العالم كيف يعيش مع نفسه ومشاكله وقضاياه من دون انتظار لما يمكن أن تتيحه واشنطن فكراً أو عملاً من حلول أو تدخلات؟ وإذا كانت الصين وروسيا وإيران سوف يكون عليها التعامل مع الحالة الأفغانية بظلامها وعنفها وتطرفها، فربما سوف يكون على العرب والإسرائيليين أيضاً معرفة أنه لا مدد قادماً من وراء المحيط الأطلسي. الصين تبدو كما لو كانت تتلمس طريقها ربما تكفيراً عن خطيئة الفيروس، أو أنها انتهاز للفرص فهكذا تكون الأمور عندما تخرج قوى عظمى أن تحل محلها قوى أخرى تبحث عن توازنات جديدة. ولأول مرة، فإن الصين تضع أقدامها في الشرق الأوسط محاولة الوساطة في أزمة مياه النيل بين دولة المنبع إثيوبيا ودولتي المصب السودان ومصر. وبعد عشر سنوات من الحرب الأهلية السورية، فإن الصين ترى أن المشكلة ليست في انتخاب جديد لبشار الأسد وإنما هي في العقوبات المفروضة على سوريا. كل هذا يحدث بينما تقوم الصين ببناء جسور للمعلومات وقنوات للحديث مع الأطراف الأفغانية المختلفة.
فهل تفضي الأزمة في النهاية إلى نوع من الجدل والديالكتيك الجديد بينما يأخذ الفيروس دورته في التحول والتحور والظهور في موجات مد وجزر، وارتفاع في بلد وانخفاض في بلد آخر؟ فالواقع أن الجدل لم يعد كافياً أن يحدث فقط بين الدول، وداخل النظام الدولي، وإنما أيضاً يجري بين الدول وكل البشر والفيروس اللعين. الرحلة إلى أميركا في هذا الوقت تبدو كما لو كانت حالة من مراقبة مخاض جديد ليس ابن عصور قديمة بقدر ما هو قادم من عصر حديث جداً.