نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

مشكلة المياه أكبر من سدّ النيل

المواجهة المحتدِمة حول سدّ النهضة الإثيوبي توحي وكأنه مصدر الخطر الوحيد الذي يهدّد إمدادات المياه في مصر. لا شك أن لمصر حقوقاً تاريخية في النيل، الذي قامت عليه حياتها وحضارتها، وأن هناك قواعد قانونية وأخلاقية تحكم التصرُّف بمصادر المياه المشتركة العابرة للحدود. لذا لا يحقّ لإثيوبيا اتخاذ إجراءات من طرف واحد، من دون الاتفاق مع المستفيدين الآخرين. لكن الخلاف على السدّ يجب ألّا يُخفي التحدّيات المائية الأخرى التي تواجهها مصر، خاصة الانفجار الضخم في عدد السكّان وتلوُّث مياه النيل وانخفاض كمية المياه المتوفرة نتيجة لتغيُّر المناخ. فارتفاع عدد السكّان ثلاثة أضعاف خلال 50 عاماً، ليصل إلى 100 مليون اليوم، أدّى إلى مضاعفة الطلب مرّات عدّة على إمدادات مائية متناقصة أصلاً. فماذا فعلت مصر لمواجهة هذا التحدّي؟
تذكّرت وأنا أتابع تطورات سدّ النهضة في الأيام الأخيرة، جلسة في القاهرة عام 2010 لمناقشة مسوّدات تقرير «المياه: إدارة متكاملة لمورد متناقص»، الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) نهاية تلك السنة. دعا التقرير إلى ترشيد استخدام المياه وإدارتها بكفاءة، للحصول على إنتاج غذائي أكبر مع استخدام كميات أقلّ من المياه. كما أوصى بالحدّ من خسارة الغلال في الحقل وخلال عمليات النقل والتخزين والتوزيع والاستهلاك، حيث يصل الفاقد إلى 40 في المائة من الإنتاج في المصدر. وفي حين يستهلك الري الزراعي 85 في المائة من المياه العذبة، يذهب أكثر من نصفه هدراً بسبب أساليب ري غير ملائمة. وفي مصر بالذات، تعتمد معظم الزراعات في المنطقة الممتدة من الصعيد إلى البحر على الري بالغمر، الذي يُعتبر أقلَّ الأنظمة كفاءة، فتذهب مياه النيل هدراً، بينما المطلوب التحوُّل إلى الري بالتنقيط. ومن التدابير الضرورية لإدارة استهلاك المياه وقف الهدر ووضع سعر عادل لها، يعكس قيمتها كمورد طبيعي متناقص.
أحد المشاركين، وهو وزير سابق للمياه والري، اعترض على فكرة التسعير من الأساس، لأن المياه، في رأيه، ضرورة للحياة وحقّ طبيعي للناس لا يجوز وضع قيود عليها. وفي حين ذهب مشارك آخر إلى معارضة التسعير على أساس ديني، عرض أحد المؤلّفين المشاركين للتقرير، وهو باحث سعودي، فتوى من شيخ جليل وعالم فاضل يؤكد فيها أنه لا مانع من تسعير خدمات المياه ما دام هذا ضروريّاً للحفاظ على مورد منحه الله لعباده كضمانة لاستمرار الحياة. وتبيّن لنا، بعد نقاش طويل، أن هناك من يعارض فكرة «تسعير المياه» من الأساس، خوفاً من أن تستغلّها بعض دول المنبع، مثل إثيوبيا، للمطالبة بسعر المياه الآتية منها. مع أن المقصود بالتسعير هنا هو المستهلِك فقط، بهدف ترشيد الاستعمال.
في الاجتماع نفسه، عرضنا ضرورة العمل على تطوير وإدخال منتجات غذائية بديلة، تستخدم كميات مياه أقل من تلك التي تحتاجها زراعة الأرز، مثلاً، وتعطي القيمة الغذائية نفسها، حتى نكون جاهزين لتناقص الكميات المتوفرة، بسبب ازدياد أعداد السكان وتغيُّر المناخ. وقد جوبهت الفكرة بأصوات اعتراض واحتجاج، على اعتبار أن هذا يسيء إلى عادات غذائية راسخة في المجتمع، ترقى إلى مستوى التقاليد المجتمعية وثقافة الحياة. ولم يَحسم النقاش إلّا تدخُّل العالم الكبير محمد عبد الفتّاح القصّاص، أحد مؤلّفي التقرير، الذي أكّد على ضرورة الاستعداد لتعديل النظام الغذائي في عالم متغيِّر المناخ، وعلى أنه لا بدّ من استبدال أي منتج غذائي بمثيلٍ موازٍ، إذا كان البديل عن قبول التغيير هو الموت جوعاً.
بين 2010 و2021 تغيّر الكثير. فلم تعد مسألة تسعير المياه من المحظورات، إذ دخلت في سياسات معظم البلدان العربية، وبينها مصر. كما أصبح الحرص في استخدام المياه وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية جزءاً من خطب الجمعة. أما مصر، حيث كان البعض يعتبر الكلام عن استبدال الأرز بمنتجات زراعية أخرى تعدّياً عل حقّ سيادي، فقد أصبحت السياسات الرسمية المعتمدة فيها هي التخفيض التدريجي للمساحات المخصصة لزراعة الأرز.
لكن هذا لا يكفي، إذ يحصر الاستجابة للتحدّي في ردّ الفعل، بينما المطلوب إجراءات عملية تخلق حلولاً تقوم على العِلم والابتكار. فأين الدراسات الجدّية للزراعات الملحية والزراعة في المناطق الجافة، التي تم تحويلها إلى مشاريع إنتاجية في الحقل لإطعام مئات الملايين من البشر؟ وأين البرامج الكبرى لتحلية مياه البحر ووقف الهدر وتعزيز الكفاءة؟ وأين المنتجات الزراعية البديلة؟ لقد حصل تقدُّم في كل هذا، لكنه بطيء ومتواضع جدّاً قياساً إلى حجم المشكلة.
في اجتماع المجلس الحاكم لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) قبل عشر سنين، تم قبول عرض من مركز أبحاث حكومي إسرائيلي لتدريب الآلاف في عشرات البلدان النامية على تقنيات الزراعة في المناطق الجافة، وذلك ضمن خطة أعدها «يونيب». اجتمع الوزراء العرب وقرروا مقابلة المدير التنفيذي للبرنامج آنذاك، أخيم ستاينر، للاحتجاج والمطالبة بوقف الاتفاق. اقترحت، بصفتي عضواً مراقباً، أن تبادر المجموعة العربية إلى إعداد لائحة بمراكز الأبحاث لديها، المؤهلة للقيام بهذه المهمة، والمطالبة بأن يتم اعتماد أحدها أيضاً للتدريب. لم يستطع المدير التنفيذي رفض الطلب، لأن الاتفاق مع المركز الإسرائيلي ليس حصرياً. لكن اللائحة العربية الموعودة لم تصل، إلى اليوم.
نقلتُ هذه الواقعة إلى الدكتور محمد القصّاص، أحد أبرز علماء الأراضي الجافة والقاحلة في العالم. وكان، رحمه الله، ما زال يداوم يومياً، وهو على عتبة التسعين، في مكتبه في جامعة القاهرة. أجابني، والحزن يغمره: «استفادت إسرائيل من احتلال الأراضي الجافة والصحارى العربية لتطوير تقنيات إدارة المياه وإنتاج الغذاء فيها، فأضحت من أكثر الجهات في العالم خبرة في زراعة الصحارى. أما نحن، أصحاب الأرض، فتكاد حكوماتنا لا تفعل شيئاً، أكان في دعم البحث العلمي الجاد أم في التطبيق العملي».
العمل للحفاظ على حقوق مصر العادلة في مياه النيل يجب ألّا يقلّل من أهمية البحث العلمي والابتكار والإدارة الرشيدة. فهذا هو السبيل الوحيد لتحويل مورد متناقص إلى مصدر لاستمرار الحياة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»