خالد البسام
كاتب ومؤرخ بحريني
TT

فرشاة الأسنان

حين تناول أحد كتبه تاريخ مدينة إسطنبول قال الكاتب التركي الشهير «أورهان باموق» للصحافيين: إنني لم أكتب تاريخ الحكام، بل كتبت تاريخ فرشاة الأسنان في مدينتي!
كان «باموق» يعرف عن ماذا كان يكتب. فهي مدينته منذ الطفولة وعاش فيها صباه وأصبح شابا بين أزقتها العريقة. كان يعرف المدينة شبرا شبرا وزقاقا زقاقا. كان أديب نوبل يعرف تفاصيل المدينة الفاتنة، ولذلك عندما رآها مثل فرشاة الأسنان كان يقصد التفاصيل الصغيرة في حياة أهلها، وأن تلك التفاصيل اليومية هي التي تحمل رائحة الإنسان.
ولعل ما قد ساعد الرجل في إنجاز هذه المهمة الشاقة أنه لا يزال يعيش بها، ولم يرحل عنها أبدا، بل اختار مكتبة في بناية مرتفعة تطل على البحر.
وأعرف بشرا وكتابا أيضا خرجوا من مدنهم مبكرا ولكن رائحتها وفرشاة أسنانه بقيت معهم طوال العمر. فقد كانوا يحتاجونها لأنها تعطيهم الحياة التي عشقوها وما زالوا يعشقونها، والدفء والطعم الجميل الذي ظل داخلهم حتى بعد سنوات طويلة من رحيلهم.
غير أن تفاصيل المدن ووصف نفسها وأماكنها لا تحتاج إلى عشاق فقط. يحبونها ويشتاقون إلى رؤيتها كلما تمكنوا من ذلك، بل إن تلك التفاصيل تحتاج إلى ذاكرة مشبعة بعشرات وربما بمئات الأيام الجميلة والحزينة بين شوارعها ودكاكينها. إنها تحتاج إلى نوع من البشر عقولهم وقلوبهم وأرواحهم عصية عن النسيان، ويحملون ذكريات مدينتهم أينما ذهبوا ومهما كانت مدة غيابهم عنها.
أحيانا كثيرة أستغرب من كتاب وأدباء نجدهم يتحمسون لكتابة عن مدنهم أو عن قراهم التي عاشوا بها أيام الطفولة والشباب ثم نزحوا عنها إلى العاصمة والمدن الكبيرة، أحيانا أستغرب منهم عندما لا يتذكرونها كما هي، بل يتذكرون الأسواق مثلا والدكاكين في حيهم، وينسون البشر تماما وكأنها مدن كانت خالية منهم.
والكثير منهم يهمل تلك التفاصيل الصغيرة، لكنها الجميلة، عن المدينة، ويشتاقون أكثر، بلا وعي أحيانا وبكل سبق وترصد في أحيان أخرى، إلى تذكر أي دور بطولي مهما كان صغيرا قد لعبوه في الماضي. ويحاولون في نفس الوقت نبش كل ما يثير شهيتهم للكتابة عن أمجاد صغيرة لم يعد لها وجود.
المدن تحتاج إلى التفاصيل، بل وتحن وتشتاق إليها مهما طال الزمن. ولعل الكثير من الأدباء العرب قد فعلوا ذلك بكل طيبة خاطر وصدق وامتنان أيضا. كان عندنا الراحل العظيم نجيب محفوظ في رواياته عن حواري القاهرة، وكان هناك الراحل أيضا عبد الرحمن منيف والمغربي محمد شكري وغيرهم كثيرون.
لكن لماذا ينحاز الإنسان إلى مدينته؟ رغم أن بعضهم تعرض للاضطهاد والظلم وعاش فيها عذاب الفقر المدقع والحرمان اليومي؟
المدينة عندنا ليست هي رئة فقط، بل هي المكان الجميل الذي نختبر فيها أقدامنا وهي تسير على الطريق، وتتعرف على دفء البشر وحكاياتهم، وتتنازل عن كل مجدها وجبروتها من أجل هؤلاء السكان العاشقين الأبديين لهوائها ومائها وأزقتها وأنفاس البشر فيها، ورائحة الدنيا التي يشمونها في كل مبنى يمرون عليه!
في أزقة المدن، في الليل أو النهار، قرب البحر أو بعيدا عنه، بجانب النهر، أو سائرون قربه، نشعر بالنسمات المنعشة، وسواليف الناس البسيطة التي لا يوقفها طوفان.
في المدن، كما قال باموق، لا يوجد هناك حكام ولا تاريخ لهم أيضا، بل بشر يحتسون الشاي الساخن في مقاهٍ متواضعة، ويعلنون الحرب على كل من يعادي مدنهم أو يمسها بسوء.
لكن مشكلة تفاصيل المدن أنها أكبر بكثير من أن نسردها على أحفادنا أو على الورق.
إنها فراشي أسنان وأكواب شاي وفناجين قهوة وصياح باعة وأبواق سيارة مزعجة.
والأهم أشواق لا تنتهي وذكريات لا تمحى، وغناء أطفال وثرثرة نساء لا يمكن إيقافها.
إنها المدينة بفرشاة أسنانها الكبيرة!