د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

العودة إلى السلطة مرة أخرى

ليس شائعاً في الدول الديمقراطية أن يقرر الرئيس الذي في السلطة ساعة هزيمته العودة إلى السلطة مرة أخرى من خلال جولة سياسية جديدة. هناك حالات جرى فيها ذلك في الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تتبنى النظام الرئاسي؛ بينما في الدول البرلمانية فإن رئيس الوزراء كثيراً ما يعود إلى الحكم مرة أخرى، وأحياناً ما هو أكثر. ورغم ذلك فإن الخروج والعودة ليس من التقاليد المحببة لأنها توجه الاتهام للنظام السياسي ذاته، الذي لا يحقق الاستقرار في الحالة السياسية للبلاد. في الوقت الراهن فإنها تمثل نوعاً من «العجز الديمقراطي» الذي يستعصي على التوافق المطلوب من العملية الديمقراطية. المناظرة في الموضوع شاعت كثيراً خلال الشهور الأخيرة منذ انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية بفوز جوزيف بايدن على رئيس الدولة دونالد ترمب. ومؤخراً بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية وسقوط بنيامين نتنياهو وفوز نفتالي بنيت، قرر ترمب ونتنياهو ضرورة العودة مرة أخرى إلى رئاسة الدولة، ورئاسة الوزراء، لإنقاذ البلاد. فهم الموضوع يبدو سهلاً في الولايات المتحدة حيث يمكن استبدال رئيس ديمقراطي بآخر جمهوري، ويمكن أن يكون العكس صحيحاً. ولكنه أكثر تعقيداً في إسرائيل لأنه ليس فقط يكون الاستبدال بين تحالف وزاري وآخر، وحدث في هذه المرة أن قطبي التحالف الجديد، بنيت ولبيد، كانا وزيرين في وزارة نتنياهو. وفي الحالتين فإن الفارق بين الفائز والخاسر في الانتخابات كان ضئيلاً للغاية لا يتعدى كثيراً 1 في الحالة الأميركية، ومقعداً واحداً داخل «الكنيست» في الحالة الإسرائيلية. وفي الحالتين فإن الخاسر أولاً أنكر نتيجة الانتخابات، وأكثر من ذلك شكك في نزاهتها، فالخسارة لم تحدث نتيجة إرادة الناخبين وإنما بسبب التزوير المتعمد. وثانياً جرى إعلان العزم على الإطاحة بالرئيس في البيت الأبيض أو رئيس الوزراء في الوزارة الإسرائيلية، والحلول محلهما.
في تقرير صدر عن «سي إن إن» في 21 يونيو (حزيران) المنصرم جاء ذكر رفض معظم الجمهور الأميركي لجهود الجمهوريين لمراجعة نتائج انتخابات الولايات لعام 2020، قائلين إنهم يعتقدون أن المراجعات محاولة لتقويض نتائج الانتخابات الصحيحة. وتقول أغلبية 57 من الأميركيين، بناءً على ما سمعوه عن عمليات التدقيق التي أجرتها أو اقترحتها الهيئات التشريعية في بعض الولايات، إنهم ينظرون إليها على أنها «جهود حزبية لتقويض نتائج الانتخابات الصحيحة». ثلثهم فقط يقولون إنهم يرونها أكثر من ذلك على أنها «جهود مشروعة لتحديد المخالفات المحتملة في التصويت». علاوة على ذلك، قال 40 من الجمهور إن مثل هذه المراجعات ستضعف الديمقراطية الأميركية، بينما قال 20 إنها ستقويها و35 يتوقعون ألا يكون لها تأثير. لم تكشف المراجعة المليئة بالمشاكل لنتائج انتخابات ولاية أريزونا لعام 2020، والتي أغضبت حتى بعض الجمهوريين في الولاية، عن أدلة تشير إلى تزوير واسع النطاق للناخبين. لكنها ألهمت الجمهوريين المؤيدين لترمب للضغط من أجل جهود مماثلة في ولايات أخرى. رغم أن الاستطلاع لم يحدد بشكل صريح عمليات التدقيق على أنها جهود يقودها الجمهوريون، فإنها وجدت انقسامات حادة على طول الخطوط السياسية. يرى 90 من الديمقراطيين أن عمليات التدقيق هي سوء نية، وحيل حزبية. الدعم الجمهوري لعمليات التدقيق واسع، لكنها أقل إثارة للإعجاب، حيث 59 يصفونها بأنها شرعية، بينما يرى 31 أنها ليست كذلك. تعكس كل من الأرقام الإجمالية والانقسامات الحزبية آراء أوسع حول انتخابات 2020، يعتقد غالبية من الأميركيين أو 61 منهم، أن الرئيس جو بايدن فاز في انتخابات 2020 بنزاهة، ومعنى ذلك أن قرابة 40 لا يعتقدونها كذلك، لكن 57 من الجمهوريين يقولون إنهم يعتقدون في النظرية التي تقول إن فوز بايدن كان بسبب تزوير الناخبين.
بغض النظر عن النسب المئوية فإن نتنياهو يشارك رفيق الدرب في «صفقة القرن» نفس المشاعر، وهي أن بقاءه 12 عاماً في السلطة كان يؤهله لكي يبقى فيها لفترات أخرى. وفي إسرائيل فإن الفارق بين تحالف يرأسه نتنياهو أو آخر يرأسه بنيت لا يشكل علامات مميزة. وبعد حرب غزة الرابعة الأخيرة، فإنه لا يوجد تميز واضح في التعامل مع فترة ما بعد القتال لا في التصريحات ولا في المطالب ولا في السلوكيات بين الطرفين. ولكن القضية لم تكن خلافاً في السياسات وإنما الخلاف حول بقاء شخص رئيس الوزراء في منصبه لفترة طويلة. مثل ذلك لم يكن واضحاً في الحالة الأميركية فلم تكن هناك معضلة وترمب لم يبق في منصبه إلا لفترة واحدة، وهي مسألة لها سوابق كثيرة، فقد حدثت مع الرئيس التاسع والثلاثين جيمي كارتر الديمقراطي والرئيس الحادي والأربعين جورج بوش الأب الجمهوري. ولكن الأمر هذه المرة في التجربتين الأميركية والإسرائيلية لم يختلط فيها الانتخاب مع النزاهة والتزوير، وإنما في الشك في النظام السياسي نفسه.
في الولايات المتحدة كان الشك في النظام الانتخابي الذي يدور حول الحق في الانتخاب خارج الصناديق المحددة والمراقبة من خلال البريد أو الصناديق الموزعة على الأحياء غير المحددة الموقع وغير المضمونة النزاهة. والنتيجة فإن ما رآه الديمقراطيون أنه حق لجميع المواطنين في التصويت من دون عنت وإرهاق، وعبر مساحة زمنية كبيرة؛ رآه الجمهوريون تضييقاً للمساحة المكانية والزمنية لعملية التصويت، وأكثر من ذلك للمصوتين بحيث لا يتسلل إلى داخلهم من ليس له حق التصويت من الأقليات الوافدة. في إسرائيل جرى التشكيك في كفاءة النظام السياسي ذاته؛ وبعد أربع جولات انتخابية لم تؤد إلى أغلبية واضحة فإنه جرى اقتراح بالدعوة إلى انتخاب منصب رئيس الوزراء انتخاباً مباشراً من الجماهير. المشكلة في هذا الاقتراح أنه جرت تجربته من قبل ومع نتنياهو أيضاً في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، وجرى الخروج منه مع مطلع القرن الجديد. المسألة هنا من الزاوية الديمقراطية أن مقترحات التغيير في قواعد «اللعبة» السياسية لا تحدث بسبب الرغبة في إحكام قدرة الشعب على اختيار قادته، ومن ثم تعبر عن درجة كبيرة من التوافق السياسي؛ وإنما هي تحدث في لحظة انقسام سياسي حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة؛ وما بين جميع فصائل اليسار واليمين في إسرائيل.
المسألة في جوهرها ربما تكون أعمق من ذلك، وهي أنه بات هناك عجز مستقر في النظام السياسي الديمقراطي ذاته يعود إلى حالة «التشظي» الشائعة بين الفرق السياسية المختلفة، والفردية التي تستغل صفات «الكاريزما» في السيطرة والجذب للشارع السياسي. ترمب ونتنياهو لديهما من الرصيد السياسي (الفساد الشخصي قصة أخرى) ما يجعلهما قوى مؤثرة في مساحات واسعة من الجماهير سواء كان ذلك بالانجذاب أم بالرفض، بالحب أم بالكراهية. وفي كل هذه الحالات يقل الاعتبار لحالة الرشد والعقل والحكمة اللازمة لعمل وفاعلية النظام ذاته وقدرته على إصدار القرار، وترجيح الأولويات.