فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مع ابن بجاد حول الفلسفة والحضارة

استمع إلى المقالة

لم يعد الحديث عن تعليم الفلسفة محدوداً في مجالات التربية وسياسات التعليم، بل أضحى من صميم النقاش التنموي المرتبط بسياسات الدول، لتحديد سبل الانتقال بمجتمعاتها نحو الأفضل والأجود.

«رؤية السعودية 2030» -مثلاً- من صميم ما تُرَكِّز عليه الانفتاح على العلوم والنظريات، والانطلاق نحو الفهم والنقاش بدلاً من الإضراب عن العلم. تنصّ الرؤية في فصل التعليم على الآتي: «تسعى (الرؤية) إلى أن تواكب المناهجُ التطورات العلمية والحضارية؛ كي يكون الطالب على تواصل دائم مع أي تطوّرات علمية ومعرفية وأي مستجدات». ومن ذلك بالطبع المستجدات العلمية والفلسفية.

وأحيل إلى مقالة مهمة للأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي نُشرت في هذه الصحيفة قبل أيام بعنوان: «الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة»، وأقتبس منه الآتي: «أمَّا في الفكر والفلسفة فالمجال أرحب وأوسع، وأكثر إثارةً للجدل، وتدخل فيه أنواعٌ من العلوم الحديثة، مثل العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا، والعلوم الاجتماعية كعلم الاجتماع وعلم النفس، وغير ذلك من العلوم. أمَّا الفلسفات الكبرى ومدارسها القديمة والحديثة فهي مجالٌ مفتوحٌ دائماً على التطور ما دام البشر يتطوّرون، وبقدر ما تكون المجتمعات منفتحةً على العلم والفلسفة وطرح الأسئلة المستحقة والتفتيش عن الإجابات المقنعة، تنال نصيبها من الحضارة والتقدم. جزء من أزمات الإنسان اليوم حضور الصخب وغياب الأفكار وقلتها في المجالات المتعددة. النخب في الخليج دائماً يكونون أكثر بطئاً من رؤى قادتهم العالية الدقة والسرعة. إن الفلسفة جزء أصيل من السجالات العلمية الطبيعية وفقه تاريخ الحضارات، وتستند إليها شتى العلوم حتى في الحرب والسياسة والاقتصاد».

إنّ تعليم الفلسفة هدفه غرس النقاش والتساؤل، ولا يعني ذلك تدمير الأخلاق، بل إن الفلسفة بهذا تعزّز من التفاهم بين الإنسان مع معرفته وأخلاقياته وروابطه المجتمعية. وإذا تمكّنت المؤسسات من التهيئة النفسية للتعلّم الفلسفي فإن الكتاب المدرسي لن يعود ذلك «الكائن الغريب» كما يصفه جون ديوي، بل يضعه أمام ألفة وسلامٍ مع الأسئلة والإشكالات.

الفلسفة متجدّدة، الآن ثمة دراسات لفلاسفة حول المصير الأخلاقي بعد تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى واقعٍ يجب التعامل معه، كلٌّ ضمن قيمه وقوانين دولته، إن الأمور متشابكة، ثمة تخادم كبير وقديم بين الفلسفة والعلوم.

ومن هنا أعود مجدداً إلى اقتباس من مقالة الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي آنفة الذكر، يقول: «خلّد التاريخ أفراداً امتلكوا العلم والفكر حسب لحظاتهم التاريخية التي يعيشونها، ففي أوج الحضارة العربية أو الإسلامية كانت الأسماء كثيرةً، مثل ابن سينا والبيروني في المشرق وعشرات غيرهما، وحين بدأت هذه الحضارة الأفول كان ابن رشد في المغرب ينشر العلم والفكر، اللذين رفضهما مجتمعه وتلقاهما تلاميذه في حضارة أخرى كانت في بداية تشكّلها في أوروبا».

الخلاصة؛ إن الفلسفة ليست كما يطرحها البعض أنها منعزلة، نرى تعليقات سلافي جيجيك وموران وغيرهما العشرات حول الحديث الجاري، إنهم منخرطون في المجال العام، ولكن ليس بغية التحليل بالمعنى السياسي، وإنما الإنصات لصوت هذه الظاهرة وبناء تنظيرٍ حولها، وهذا يتكامل مع التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولذلك لا حضارة متماسكة من دون أسس نظرية فلسفية صلبة.