عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أخبار بريطانيا العظمى

أخيراً انطلقت خدمة تلفزيونية جديدة في المملكة المتحدة يطرح فيها المذيعون ومقدمو البرامج الأسئلة التي لا يطرحها مذيعو الشبكات الكبرى كـ«بي بي سي»، و«سكاي»، و«آي تي إن»، و«القناة الرابعة»، تكاسلاً أو جهلاً، أو (في كثير من الأحول) تعمداً، بسبب تدهور المستوى المهني، مما حول شبكات البث المؤسساتية العريقة إلى جهاز دعاية ضخم للقضايا التي فرضتها النخبة اليسارية الليبرالية في العاصمة على الأغلبية الصامتة في الأقاليم، مثلما أشرنا سابقاً.
الخدمة الجديدة، «جي. بي.نيوز» (والحرفان الأولان من بريطانيا العظمي) جاءت بمفهوم إخباري لم نعهده من قبل، ولا نستطيع الحكم على التجربة بعد، خصوصاً أنها تمثل الصوت الاحتجاجي ضد المؤسسة المسيطرة على الصحافة، وعمر الخدمة ستة أيام فقط ساعة وصول الصحيفة إلى أيدي القراء.
عدد من البرامج تصادف أنه في التوقيت نفسه مع برامج سياسة مهمة على المحطات التي تفوق إمكاناتها ميزانيات دول بأكملها، لكن جاء عدد مشاهدي المحطة الجديدة وقتها أكثر من مشاهدي «بي بي سي» و«سكاي» و«القناة الرابعة» مجتمعين، مما يدعم ما ذكرناه من قبل عن انتقال الحرب الثقافية (التي بدأتها التيارات الماركسية في الغرب كبديل للاتحاد السوفياتي) إلى ساحة الوسائل الصحافة مرئية ومسموعة ومقروءة وتواصلاً اجتماعياً، كما دعمت تقديراتنا السابقة بأن الأغلبية الصامتة ترفض الأجندة التي تقررها عليهم النخبة اللندنية.
للتوضيح «GBnews» بالعربية «أنباء ب.ع». الحرفان الأولان من بريطانيا العظمى. ورغم أن المصطلح الذي روجته الصحف العربية (وصحافة العالم الثالث) يفسرها من مفهوم «العظمة» كإمبراطورية، فالواقع أنه مفهوم جغرافي بمعنى «بريطانيا الكبرى». فالإمبراطورية البريطانية، سابقاً، كتعريف سياسي وجغرافي غير المملكة المتحدة (اتحاد بريطانيا العظمي وآيرلندا الشمالية وبعض التوابع والجزر)، وهي 650 دائرة برلمانية، وبدورها غير الجزر البريطانية (والتي تشمل الجمهورية الآيرلندية المستقلة التي تعرف بآيرلندا الجنوبية). بريطانيا العظمى (الكبرى) تعني كتلة المساحة الأضخم جغرافياً من الجزر البريطانية، حيث تقع عليها إنجلترا، واسكوتلندا، وإمارة ويلز.
اختيار الخدمة التلفزيونية الجديدة للاسم يعكس مفهوماً جغرافياً وديموغرافياً كبديل عن خدمات كبرى كـ«بي بي سي»، و«سكاي»، التي تفرض على المتلقي أجندة إخبارية حددتها الصفوة المثقفة (وغالبيتها يسارية ليبرالية) من العاصمة لندن؛ مفهوم أن مصدر الأخبار سيكون قضايا المواطن البسيط من الأغلبية الديموغرافية التي تسكن كل الجزر الكبرى (بريطانيا العظمى).
معظم الفقرات بجولات صحافية بطاقم كاميرا بدأت من أصغر جزر بريطانيا شمالاً، وصلت نهاية الأسبوع إلى أصغر قرية ساحلية في الجنوب الشرقي، وستعيد في الأسبوع المقبل الكرة من الشرق إلى الغرب، وبالطبع هناك آلاف من القرى والجزر والموانئ والمجتمعات. تغطية من مدينة هيستينغز التاريخية الصغيرة على القنال الإنجليزي (بحر المانش)، حيث وقعت المعركة في 1066 التي غيرت مسار التاريخ بغزو دوق نورماندي (ويليام الفاتح 1028 - 10879) بريطانيا، كانت الاستثناء، والقاعدة أن جميع البلدان التي زارتها الكاميرا تجاهلتها المحطات الكبرى، ونادراً ما يأتي ذكرها في نشرات أخبار الخدمات الكبرى، ولا يعرف المتفرج عنها شيئاً. الفقرات الأخرى الجديدة أن استعراض الصحافة (والشبكات الكبرى تقدم في الليل ما ستذكره صحف الغد، وفي الصباح تحليل ما ورد في الصحف والمواقع) يستضيف محرري الصحف المحلية (هناك المئات من صحف الأقاليم والقرى) لاستعراض تغطيتها لما يؤثر عليهم محلياً وتجاهلته صحافة لندن. وهي مفاجأة بالنسبة لأبناء الطبقات الميسورة في العاصمة أن يروا على شاشة تلفزيون خدمة قومية (مركزها لندن) قضايا الأقاليم عن أمراض الدواجن وأسعار علف الماشية كمانشيت الصفحات الأولى في ريف شروبشر، أو ثمن خيوط إصلاح شباك الصيد في جزيرة اسكوتلندية لم تسمع بها لندن من قبل.
المستحدث أيضاً غياب نشرة الأخبار المعهودة على رأس الساعة والتقارير الإخبارية التقليدية. التفسير حرية المتفرج في اختيار الأخبار، وهي اليوم في متناول الجميع، على التواصل الاجتماعي، بينما أصبحت «غوغل»، و«ياهو»، مثل وكالات الأنباء؛ أي توغل غير مسبوق لحرية الفرد الاختيارية في محيط لا يزال حكراً على المؤسسات الكبرى أو الدولة في بلدان حكم الهيئة التنفيذية لا البرلمانية. وما زلت كصحافي من المدرسة القديمة غير متأكد من نتائج هذه التجربة التي أعتقد أن نقص الإمكانات المادية للمحطة كان أثره أكبر من مفهوم الحرية الفردية كممارسة إخبارية. لكني كصحافي أيضاً سعيد بوجود المخضرمين، خصوصاً مؤسس المحطة أندرو نيل (رئيس تحرير «الصانداي تايمز» سابقاً، ومقدم البرنامج السياسي في «بي بي سي» لعدة سنوات) ومقابلته الجريئة مع وزير المالية ريتشي سوناك، حيث طرح أسئلة، خصوصاً عن سياسة الطاقة الجديدة التي ستخرب بيوت الناس، لم تطرحها الـ«بي بي سي»، ولم يستطع وزير المالية الإجابة عليها. الغريب أن الخدمة الجديدة تعرضت لهجوم شرس من المؤسسة التقليدية واليسار بإمكاناته الضخمة والاتحادات العمالية، وإجبار شركات كبرى على سحب إعلاناتها من المحطة حتى قبل انطلاقها، تماماً مثل الغوغاء الذين يحرقون كتباً لم يقرأوها، ويهاجمون صحافيين في مجلات لم يسمعوا بها من قبل.
«جي بي نيوز» متهمة بأنها يمنية وعنصرية. التهمة الأخيرة مضحكة لأن المحطة الجديدة بها أعلى نسبة من الملونين والأقليات وكبار السن من المذيعين والمراسلين، أكبر من تمثيلهم في الخدمات الأخرى. أما تهمة اليمنية، فهي لتغطية المحطة قضايا تتعمد الـ«بي بي سي» وأخواتها تجاهلها، لأن طرح سؤال حول من سيتحمل تكاليف إجبار الفقراء على استبدال غلاية التدفئة بالكهربائية الجديدة هي في تعريف الصفوة المثقفة «تطرف يميني» لأنه كفر بالعقيدة الجديدة.
ظاهرة أخرى استوقفتني هي الهجوم الشرس الذي شنته غالبية المثقفين المصريين والعرب البريطانيين على الخدمة الجديدة قبل انطلاقها، وتستحق التحليل في موضوع منفصل. السبب الأكبر في تقديري أن النافذة الذهنية الرئيسية التي يتطلع منها هؤلاء المثقفون على المجتمع البريطاني (الذين يعيشون على حافته وقلوبهم وعقولهم في بلاد المولد) هي «الغارديان»، منبر اليسار، التي يعتبرونها كتابهم المقدس (رغم أنها أقل الصحف توزيعاً ولا تعبر عن العقلية البريطانية). واليسار في مصر والبلدان العربية لا يزال في غالبيته تقدمياً، لأن المبدعين والمثقفين والكتاب ذوي الوزن ينتمون لليسار القديم، لكن اليسار البريطاني الجديد هو مجموعة من التناقضات غير المفهومة ومنفصل عن غالبية الشعب، وهو الداعم الأكبر والحليف المناصر لإيران و«الإخوان» ومثيلاتها من المنظمات الإرهابية، التي تغتال المثقفين عندما تسنح لها الفرصة.