سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

إلى حيث ذهبت أم عمرو!

ستكتشف وأنت تتابع مداولات تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة في تل أبيب، أنها يمكن في حال خروجها إلى النور، أن تكون حلاً للوضع على مستوى الداخل في إسرائيل، يمكن أن تكون حلاً هناك ويمكن ألا تكون طبعاً، لكنها أبداً لن تكون حلاً للوضع على مستوى الخارج مع قضية فلسطين، أو مع غير قضية فلسطين من القضايا ذات الصلة بامتداد المنطقة.
ذلك أن نفتالي بنيت الذي يشكل الحكومة تحالفاً مع يائير لبيد، ما كاد يتلقى تكليف الرئيس رؤوفين إيفلين، حتى سارع إلى التصريح للإعلام بكلام يجعله لا يختلف عن بنيامين نتنياهو في شيء، وإذا اختلف فسوف يكون اختلافاً في الشكل، وفي الاسم بينهما، لا في الجوهر ولا في المضمون!
مما قاله بنيت على سبيل المثال، وكان مانشيتات عريضة في الصحف قبل ستة أيام، أنه لن يوقف الاستيطان في الضفة الغربية عندما يصبح على رأس الحكومة، وأنه سيذهب إلى إعلان الحرب على قطاع غزة ولبنان إذا اقتضت الضرورة.
وهذا كلام كما ترى يجعل كل الفارق بين رئيس الوزراء المنتهية ولايته نتنياهو، وبين رئيس الوزراء المكلف نفتالي بنيت، أن الأول اسمه كذا، وأن الثاني اسمه كذا، ولا شيء أبعد من ذلك، وأننا إذا افترضنا أن اسم كل واحد منهما هو مجرد قناع على وجهه، فعند نزع القناعين عن الوجهين لن يختلف الأمر بينهما، وسوف لا يكون هناك فارق في واقع الحال فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة، بين أن يذهب نتنياهو أو يجيء نفتالي!
وفي اليوم ذاته الذي أطلق فيه بنيت هذا الكلام، كان بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، يزور العاصمة الأميركية واشنطن، وهناك سمع من إدارة الرئيس جو بايدن ما يؤشر على العقلية السياسية في واشنطن هي ذاتها تقريباً في تل أبيب، من حيث مدى إيمانها بضرورة أن يطرأ تغيير على السياسات المعتمدة في التعامل مع القضية في فلسطين، ثم في باقي القضايا مع العرب في الإجمال.
سمع غانتس من إدارة بايدن أنها ستدعم الحكومة في إسرائيل أياً كان اسم رئيسها الجالس على قمتها، وأنها ستقدم للجيش في إسرائيل ما من شأنه أن يعزز من القبة الحديدية التي تحمي السماء الإسرائيلية ويقويها. وهذا يعني أن الدعم الأميركي للحكومة الإسرائيلية الجالسة في مقاعد الحكم هو دعم مطلق، وهو شيك على بياض، من دون سؤال عن السياسات التي تعلن عنها الحكومة في حالة تشكيل حكومة نفتالي، وبلا انتظار حتى لما سوف تقوله عن سياساتها في المستقبل.
وعندما نجد أنفسنا في المنطقة أمام وضع هذه هي ملامحه، فهذا معناه أن المشكلة هي في العقلية السياسية التي تحكم في تل أبيب، وكذلك في تلك التي تدعم في بلاد العم سام، وأن التغير المطلوب هو في هذه العقلية، وليس في اسم رئيس الحكومة، ولا في شكله، ولا في صورته، وإلا، فإن المنطقة سوف تظل في وضع «محلك سر» الذي تعرفه الحياة العسكرية على جبهات القتال.
وحين يكون هذا هو الوضع، فالجميع خاسرون في النهاية، ويخطئ من يتصور أن الطرف الفلسطيني هو وحده الذي يخسر.
ففي المواجهة الأخيرة بين الطرفين سقط 12 إسرائيلياً، ووصلت صواريخ المقاومة الفلسطينية إلى مطار رامون الإسرائيلي على الحدود الأردنية، وبدت القبة الحديدية التي راهن عليها الإسرائيليون وكأنها قبة من القش، وانتشرت رسومات كاريكاتورية على مواقع التواصل الاجتماعي تصور نتنياهو وهو يعرض بيع أجزاء من القبة في سوق الروبابيكيا!
صحيح أن خسائر المقاومة الفلسطينية كانت أكبر على مستوى عدد الأفراد، وكذلك على مستوى البيوت التي تهدمت، ولكن أي مقارنة موضوعية بين إمكانات الطرفين ستبين أن تل أبيب خسرت كما لم تكن تتوقع، وأنها بدت حائرة مضطربة رغم عنف ضرباتها على قطاع غزة. ولم يكن هناك دليل على ذلك إلا أنها قبلت وقف إطلاق النار في الحادي والعشرين من الشهر الماضي من دون شروط، بعد أن كانت في بداية الضربات تتشدد وتقول إنها لن تذهب إلا إلى تهدئة مشروطة!
والولايات المتحدة خسرت هي الأخرى من حيث عدم قدرتها على تجاوز سياسات دونالد ترمب، التي بدت في وقتها منحازة إلى طرف دون طرف في الصراع..
خسرت واشنطن في أثناء الحرب على غزة لهذا السبب، ثم ستخسر أكثر من سمعتها السياسية في المستقبل، إذا لم تقدم ما يمنع تجدد الحرب وما يثبت أنها وسيط سياسي نزيه بين الطرفين.
ولم يكن خافياً على أحد ممن تابعوا نشوب الحرب ثم توقفها، أن نتنياهو إذا كان قد ذهب إليها لأسباب كثيرة، فإن السبب الأهم كان حرصاً منه على البقاء في منصبه، حتى ولو أدى ذلك إلى اشتعال المواجهات بينه وبين الفلسطينيين إلى حدود تكاد تخرج عن السيطرة!
كان يعتقد أن ذهابه إلى حرب من نوع ما أشعلها ونفخ فيها النار، سيحشد اليمين السياسي من ورائه وسيجعله قادراً إما على تشكيل حكومة يعجز عن تشكيلها منذ أكثر من عامين، وهذا ما كاد يحدث عندما أعلن حزب من أحزاب اليمين عن استعداده للتحالف معه لتشكيل الحكومة، وإما على ذهابه إلى انتخابات برلمانية ستكون الخامسة في طريق محاولاته المستميتة للحصول على غالبية يشكل بها الحكومة!
ومنذ أن تلقى بنيت تكليفاً بتشكيل الحكومة تحالفاً مع يائير، اعتادت وسائل الإعلام على أن تصف نتنياهو كلما جاءت سيرته، بأنه رئيس الحكومة المنتهية ولايته، ويبدو أن تسمية كهذه تثير جنونه، فهو كلما سمعها راح يبحث عن طريقة يضرب بها التحالف في مقتل، ويعيد التكليف من جديد إليه.
ولا بد أنه في حالته الراهنة يشبه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى حد بعيد، من حيث تشبث كليهما بالسلطة إلى آخر لحظة، ومن حيث نظرُ كليهما إلى السلطة باعتبارها هدفاً في حد ذاته، لا أداة في يده لتحقيق مصالح الناخبين.
وسوف يأتي وقت فيما بعد يتحول فيه الرجلان معاً إلى حالة يدرسها طلاب العلوم السياسية، بوصفها الحالة التي يتعين على كل سياسي أن يتجنب التشبه بها. فالبعد عنها هو بداية الطريق إلى احترام إرادة الناخب، التي لها وحدها أن تذهب بفلان من فوق مقاعد الحكم، ثم تأتي بعلان من الساسة في مكانه!
وعندما يتأكد نجاح التحالف في تشكيل حكومته، سيذهب نتنياهو إلى حيث لا يعود، وسيكون وضعه أقرب إلى ما كان الشاعر القديم يقصده وهو يقول: ذهب الحمار بأم عمرو، فلا عادت ولا عاد الحمار!
ورغم أننا لا نعرف من هي بالضبط أم عمرو هذه، التي خرجت على ظهر الحمار، فلم ترجع ولا رجع حمارها، ولا نعرف ما إذا كان الشاعر يخبرنا بأنها خرجت فلم ترجع، أم أنه يدعو الله عليها ألا تعود، فالصياغة في بيت الشعر تحتمل المعنيين، إلا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايته، يظل أقرب ما يكون إلى حالتها، أو هكذا يبدو في نظر من يتمنون غيابه عن الساحة في المنطقة.
ولكن يبقى أن المشكلة ليست فيه كشخص، وإنما في العقلية التي يمثلها في الحياه السياسية الإسرائيلية؛ ولذلك، فالأمل أن تتوارى هذه العقلية قبل أن تختفي الشخصية!