إميل أمين
كاتب مصري
TT

التبرع بالأعضاء خطوة تنويرية سعودية

في خطوة أبوية حانية، وتنويرية خلاقة، شهدت المملكة العربية السعودية الأيام القليلة الماضية تسجيل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في برنامج التبرع بالأعضاء، الأمر الذي يعكس ملمحاً وملمساً إنسانياً ووجدانياً تجاه المرضى الذين تتهدد المخاطر حياتهم، إن لم يبادر إخوة لهم في الإنسانية بالعمل على استنقاذهم.
ليس سراً أن قضية التبرع بالأعضاء كانت قد أثارت جدلاً واسعاً حول العالم، وليس في داخل المملكة فقط، واليوم يبدو صوت العقل والحكمة، بل والروح الإنسانية الوثابة، هو الراجح، وبات العمل على التبرع بالأعضاء صورة من صور التكافل والتعاضد في داخل المجتمع السعودي.
يعن لنا أن نتساءل فلسفياً أول الأمر: «ما الذي يعنيه التبرع بالأعضاء، وهل في الأمر امتهان لكرامة الإنسان المتوفى، الذي يوافق في حياته على إعطاء بعض من جسده ليهب زخماً لحياة آخر تتوقف على هذه الهبة والعطية التي لا تقدر بثمن؟».
من هبات الله للإنسانية العلم، ومنه فروع الطب التي جعلت من الممكن زرع أعضاء بشرية في أجساد أخرى، بهدف واحد وهو إنقاذ الأرواح، ومن أجل الحفاظ على واستعادة الوضع الصحي للعديد من المرضى الذين لا يملكون حلاً بديلاً، ذلك أنه ورغم التقدم الحاصل على صعيد العلاجات والعقاقير، إلا أنها كلها تقف أحياناً قاصرة عند لحظة بعينها عن إكمال مسيرة الحياة لمن أصابهم عطب جسيم.
فلسفياً يبدو إقدام المرء على التسجيل في برنامج مثل ذاك الذي سجل فيه خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، أنه ينظر بعيداً عن الذات ولا يتمحور من حولها، بل يتجاوز الرؤية الضيقة الفردية وينفتح بسخاء وافر على خير أوسع، وهنا يبدو صدى الآية القرآنية الكريمة واضحاً وضوح الشمس في ضحاها «... ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً».
من هذا المنظور لا يظهر فعل التبرع بالأعضاء كفعل مسؤولية اجتماعية وحسب، وإنما كتعبير للأخوة الشاملة أيضاً، التي تربط جميع البشر ببعضهم البعض.
يأتي تشجيع القيادة السعودية الحكيمة للتبرع بالأعضاء في إطار تغذية ثقافة حقيقية للحياة، وتعبيد دروب تنويرية ضمن سياقات رؤية المملكة 2030. وفيها يأتي البشر قبل الحجر، لا سيما أن التبرع إذا تم وفقاً للقواعد الأخلاقية، يتيح للمرضى البائسين فرص الشفاء ورسم الابتسامة على شفاه تألمت طويلاً جداً.
والشاهد أنه كيفما يكون الراعي تكون الرعية، وأينما يتوجه تستشعر الجموع أهمية خطواته، ولهذا بدا واضحاً التأثير الإيجابي والخلاق لخطوة خادم الحرمين الشريفين وولي العهد، ذلك أن منصة التبرع بالأعضاء استقطبت في الأسبوعين الماضيين آلافاً من السعوديين الراغبين في التسجيل ببرنامج التبرع بالأعضاء، بعدما كان النقص الشديد والتراجع في تسجيل أعداد المتبرعين هو النهج الغالب.
يبدو المركز السعودي لزراعة الأعضاء، الذي كان من قبل المركز الوطني للكلى، طاقة أمل في منطقة الخليج العربي برمتها، والمسطح المتاح للكتابة يضيق عن ذكر عدد العمليات الجراحية التي قام عليها منذ عام 1994 وحتى الساعة.
ولعل الذين قدر لهم الاطلاع على ضوابط التبرع بالأعضاء بعد الموت في المملكة العربية السعودية، ربما تأخذهم الدهشة لما تراعيه من حدود إيمانية وخطوط أخلاقية وثوابت قانونية، لا تقل أبداً بل تضارع ما يجده المرء في بروتوكولات كبريات المستشفيات العالمية الأوروبية والأميركية، الأمر الذي يعني صيانة الكرامة الإنسانية للمواطن في الحياة والموت، على حد سواء.
تبقى الحياة أول الأمر وآخره هبة من عند الله وقيمتها لا تقدر بثمن، وكرامة الإنسان مقدسة بقدسية خالقها سبحانه وتعالى، فيما التبرع بالأعضاء بعد الموت، يجعل العطاء حباً جباراً يتحدى قيود الموت، ويجعل الموت مصدر حياة وسعادة وهناء.
ولعله من نافل القول التأكيد على العلاقة العضوية بين التبرع بالأعضاء وبين أخلاقيات مهنة الطب، والتزامات الطبيب الذي يقوم بزرع عضو من الأعضاء، ذلك أن ما يفعله مقنن بشرائع أدبية وروحية وقانونية، فهو آلة يستخدمها الخالق جل اسمه، لاستمرار مسيرة الحياة من إنسان إلى آخر.
في هذا السياق لا يحتاج الأمر للتأكيد على عدم جواز أن تصبح الأعضاء البشرية عند أي لحظة من اللحظات، سلعة تباع أو تشترى، ولحسن الحظ فإن القوانين الوضعية السعودية المنظمة لعملية زرع الأعضاء تتشدد جداً في هذا السياق، منعاً لأي تجاوزات يمكن أن تأتي بها النفوس الصغيرة.
تقود مبادرة خادم الحرمين الشريفين وولي العهد إلى تعميق العلاقات الإنسانية بين أبناء المملكة، ذلك أن أريحية التبرع لا تتوقف عند المتبرع فقط، بل تمتد كذلك إلى المتلقي، الذي حكماً سيستشعر قدر نبل المتبرع، وكرامة عطائه الإنساني العظيم الذي لا يقدر بثمن، ما يجعله مديناً لوطنه ولإخوته في الإنسانية بحياته.
أن تستبقي حياة إنسان آخر، أو تشارك في التخفيف عن آلامه، أو الشفاء من مرضه، فهذا هو مقصد الشريعة في الحال والاستقبال.