نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

الهجمات السيبرانية الكبيرة مسؤولية الدول

كانت ليلة رأس السنة الجديدة لعام 1879 مناسبة لعرض الأوبرا الكوميدية بعنوان «قراصنة بينزانسي» من تأليف سير ويليام غيلبرت وألحان الموسيقار آرثر سوليفان، التي ظهر فيها مجموعة من القراصنة المحبوبين الذين هبطوا على أحد المنتجعات الهادئة المطلة على البحر. وكانت تلك الأوبرا الكوميدية بمثابة تحول كبير في أذهان المشاهدين عن الصورة التقليدية المرعبة لقراصنة البحر في تلك الآونة ومنذ بداية القرن.
ومن شأن التحول الذي طرأ على أعمال القرصنة من التهديدات البحرية المباشرة إلى الأوبرا الفنية الكوميدية الرائعة على مدار القرن التاسع عشر أن يمنح صناع السياسات في الآونة المعاصرة بعض الإشارات حول كيفية الوقوف في مواجهة هجمات القراصنة السيبرانيين، على غرار هجمة المطالبة بالفدية التي تسببت في حادثة الشلل بخط أنابيب «كولونيال» خلال الأسبوع الحالي. وسواء كان القراصنة من روسيا، أو من كوريا الشمالية، أو من أي مكان آخر حول العالم، فسوف يتعين على الولايات المتحدة التدخل مستعينة ببعض السياسات الجيوسياسية الصارمة ذات الطراز القديم، بهدف التغيير من محفزات تلك الحكومات في الإقدام على مثل هذه الهجمات في المستقبل.
وليس من مبالغات القول إن هجمات البرمجيات الخبيثة المطالبة بالفدية قد تحولت مع مرور الوقت، وبكل هدوء، إلى صناعة قائمة بذاتها. ولكنها الصناعة التي نجحت في الوقت نفسه في المحافظة على مكانة منخفضة إلى حد ما على مستوى العالم حتى الآن، نظراً لأن الضحايا مثلهم مثل القراصنة لا يرغبون أبداً في الإفصاح عما لديهم من معلومات أو بيانات على المجال العام بشأن الهجمات، أو مدى تكرار عمليات الاختراق المحققة. (ربما يكون هذا التحفظ الشديد من بين الأسباب التي تدفع مكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي إلى الإبلاغ عن أرقام وإحصاءات منخفضة الشدة بدرجة يصعب على أحد تصديقها في الواقع). أما الآن، ومع الهجوم السيبراني الأخير الذي أسفر عن تعطل وإغلاق خط أنابيب كولونيال مع رفع أسعار الغاز الطبيعي في الساحل الشرقي، فإن جانب الأمن القومي الواضح من الظاهرة نفسها بات متصدراً واجهة الأحداث ومحتلاً مركز الصدارة منها.
وهذا من الأمور الجيدة في حد ذاتها، لأنها، وكما يظهر من دروس التاريخ، هي الطريقة الوحيدة لمواجهة وهزيمة القراصنة. إذ تحتاج البلدان الكبيرة والقوية إلى استعراض العضلات، واتخاذ الإجراءات الصارمة بحق البلدان الأضعف منها، التي تفتح أبوابها لإيواء القراصنة والمتسللين.
ومن شأن تلك الطريقة أيضاً أن تمثل تغييراً كبيراً عن الأوضاع الراهنة المعهودة، التي تنصح فئة من خبراء مفاوضات البيانات المخضرمين عملاءهم بأنهم ليس أمامهم من خيار سوى دفع الفدية المطلوبة – وشراء صمت القراصنة جنباً إلى جنب مع بياناتهم المسروقة منهم.
يشير المحامي السيبراني سيث بيرمان، وهو الخبير منذ سنوات طويلة في هذا النوع من القضايا، إلى أن تكاليف الأمر تتجاوز مجرد انتهاك البيانات العامة، حيث يمكن للبيانات المجمدة لدى القراصنة أن تسفر عن توقف أعمال الشركة، والعصف تماماً بالإيرادات. وربما تكون تلك التكاليف سالفة الذكر هي أعلى بكثير من الثمن الذي يطلبه القراصنة. وترتفع التكاليف بأكثر من ذلك مع ارتفاع جرأة القراصنة أنفسهم: إذ يشير أحد التقديرات المعنية بالأمر إلى أن التكلفة الإجمالية للهجوم السيبراني الأخير قد ارتفعت من 761106 دولارات في عام 2020 إلى أكثر من 1.8 مليون دولار في عام 2021.
ووفقاً للسيد بيرمان، فإنَّ القراصنة يزداد إدراكهم يوماً بعد يوم بحجم الأضرار التي يستطيعون التسبب فيها. ومن الناحية المنطقية، فإنهم سوف يواصلون المحاولات من دون توقف لتحديد الفدية بأقل من تقدير الشركة للخروج من الإنترنت أو الكشف عن بياناتها في المجال العام. كما أنه من المنطقي أيضاً بالنسبة للقراصنة ملاحقة الشركات الكبرى والعملاقة، حيث بلغ متوسط الفدية في العام الماضي حوالي 170404 دولارات، على العكس من الأفراد، إذ لا يكلف أغلب الناس أنفسهم عناء دفع الفدية لأي جهة كانت، بسبب سهولة شراء جهاز حاسوب جديد، وحتى عندما يضطرون إلى دفع الفدية، فإن متوسط مبلغ الفدية في هذه الحالة لا يتجاوز 504 دولارات فقط.
من الضروري لأجل حل مشكلة البرمجيات الخبيثة المطالبة بالفدية، أن ننظر في كيفية القضاء على مشكلة القرصنة في حد ذاتها على مدار القرن التاسع عشر ومجرياته التاريخية الكثيرة. تفيد النسخة الموجزة من القصة بأن الدول الكبرى ذات القوات البحرية الهائلة قد استخدمت نفوذها العسكري في الحيلولة دون مواصلة أعمال القرصنة، ومنع القراصنة من متابعة أعمالهم انطلاقاً من القواعد التي كانوا ينطلقون منها سابقاً من دون مواجهة أي عقاب يُذكر. وبكل تأكيد، ساعدت السفن الحربية الحديثة والكثيرة في القبض على المزيد من القراصنة. غير أن البشر ليس بإمكانهم البقاء في البحر طوال الوقت، ولا بد للقراصنة وسفنهم من موانئ معينة يلجأون إليها للراحة، والتزود، والتأهب والاستعداد للجولات الجديدة من أعمال القرصنة.
أما اليوم، لا تزال أعمال القرصنة البحرية في الممرات الملاحية قائمة ومستمرة إلى حد كبير، وبصورة حصرية في الأماكن التي تشتهر بالحكومات الضعيفة التي تفتقر إلى المقدرة، أو تنقصها الإرادة الكافية لقمع أعمال القرصنة عبر سواحلها، ونضرب مثالاً بالصومال على تلك الأوضاع. (يُرجى مراجعة دراسة بعنوان «الحوكمة» من إعداد الباحثين في المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية).
وعلى سبيل المقارنة والقياس، تنشأ برمجيات المطالبة بالفدى من الدول التي إما أنها لا تكلف نفسها عناء قمع هذه الممارسات الخبيثة، أو أنها تشارك فيها بنشاط واضح، في مثال على نوع من الكيفيات التي تُكلف بها الحكومات الحديثة المبكرة القراصنة والمتسللين للمشاركة والانخراط في شكل من أشكال أشباه أعمال القرصنة المسموح بها قانونياً.
ومن ثم، ينشأ الحل في مواجهة البرمجيات الخبيثة المطالبة بالفدى لدى الولايات المتحدة، والبلدان القوية الأخرى، التي تستخدم قوتها ونفوذها لإحداث التغيير المطلوب في محفزات البلدان الأخرى مثل روسيا وكوريا الشمالية، التي يبدو أنها تؤوي أغلب الهجمات السيبرانية. وتلك الأدوات هي من المعمول بها لدى سياسات القوى العظمى: فرض العقوبات، وشن الهجمات المضادة، والإقرار بأن هجمات البرمجيات الخبيثة المطالبة بالفدى هي من أعمال القرصنة المباشرة التي يمكن عند مرحلة معينة أن تنتقل إلى خانة أعمال الحرب. وعندما يتعلق الأمر بالبلدان الأضعف، التي تفتقر إلى المقدرة على منع قراصنة البرمجيات الخبيثة المطالبة بالفدى، فإن الأدوات التي يستعينون بها تتمثل في المساعدة على إنفاذ القانون، والمعاونة في بناء البنية التحتية السيبرانية على مستوى الدولة بأسرها.
أما بالنسبة إلى الدرس المستفاد من التاريخ، فهو أن القرصنة لن تختفي من على خريطة العالم بين عشية وضحاها من تلقاء نفسها. وإنما لا بد من تكاتف الجهود وتضافر الأنشطة لمواجهتها والقضاء عليها. كما أن القراصنة وعناصر الاختراق والتسلل الحالية ليسوا كمثل القراصنة المحبوبين من أوغاد الأوبرا الكوميدية الهزلية القديمة الذين يشيعون أجواء المرح أينما حلوا. بل إنهم على الصورة نفسها التي وصفهم بها القانون الدولي على الدوام: متطفلون بشريون من أعداء الإنسانية كلها.