مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

لماذا نعاني من انعدام الثقة في المجال العام؟

نتيجة لتعرض جزيرة صقلية في الجنوب الإيطالي للغزو المتعدد من الفينيقيين ثم الرومان ثم العرب ثم الفرنسيين والإسبان، كان على أهل صقلية أن يحموا أنفسهم من حكم الغرباء الذي تمكن منهم بتكوين ميليشيات محلية لحماية أرضهم ومصالحهم، ومن هنا نشأت فكرة المافيا التي تعتمد على علاقات الدم والقرابة كأساس للحماية.
علاقات القرابة هذه كانت لها ملامحهما الواضحة التي تؤكد المصلحة الخاصة كأساس للمجتمع دونما الالتفات إلى المصلحة العامة، وكانت الثقة بها ترتبط بأهل قرابة الدم وحدهم وما عدا ذلك فهو مصدر شك كبير، إذ كانت الثقة بمجتمع ما قبل الحداثة هي الثقة المباشرة (وجهاً لوجه) بمعنى أنك تنظر في عين الشخص فتعرف إذا كان جديراً بالثقة أم لا يستحقها.
في هذا النوع من المجتمعات تكون الثقة بالمحيط المحلي أو بأهل الحكم معدومة وذلك لتراكم طبقات الظلم من قمة الهرم إلى سفحه؛ ظلمات بعضها فوق بعض كحوت سيدنا يونس. سياق صقلية القرن التاسع عشر المفرغ من الثقة الحداثية أو الثقة المعتمدة على الوسائط العقلانية خلق حالة الأخلاق العائلية أو اختفاء فكرة الأخلاق خارج دائرة علاقات الدم.
في عام 1952 ذهب عالم الأنثروبولوجيا السياسية إدوارد بانفيلد لدراسة قرية في الجنوب الإيطالي لمعرفة ما سماه الأسس الأخلاقية للمجتمع المتخلف، خلص فيه إلى تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وليس هذا هو العامل الوحيد، الذي كان مسؤولاً عن ظهور العائلية اللاأخلاقية التي تطورت لتشكل وعياً اجتماعياً أنتج لنا ظاهرة المافيا في الجنوب الإيطالي.
ما علاقة المافيا بفهمنا لانعدام الثقة وغياب المجال العام في المجتمعات العربية؟
بداية أرى أن مفهوم المافيا أو «البلطجة» الاجتماعية هو طيف واسع يبدأ من الممارسات المحلية الصغيرة على مستوى حارة نجيب محفوظ أو قرية يحيى الطاهر عبد الله أو مدينة محمد شكري وما بين كل ذلك من تنوعات على المستوى المحلي إلى حالة البلطجة الوطنية المتمثلة في القمع كبديل عن حالة التراضي أو العقد الاجتماعي كأسلوب حكم وإدارة للتنوع والاختلاف في المجتمع.
هذا المنظور القادم من سياق بعيد ربما يجعلنا نستطيع تسليط الضوء على أزمة الثقة بين المجتمع والدولة في منطقتنا بشكل مختلف وربما يأخذنا إلى مساحة جديدة لإعادة قراءة تاريخنا بشكل مختلف.
فمثلاً إذا طبقنا هذا المنظور على الحالة المصرية التي تعاني من حالة انعدام الثقة وموت المجال العام أو ضيقه، فقد نرى التاريخ بشكل مختلف. فبدلاً من أن نرى محمد علي مثلاً بانياً لمصر الحديثة حسب السردية الوطنية المهيمنة، يمكننا رؤيته كحلقة في حلقات تاريخ طبقات الاحتلال الخارجي من البطالمة حتى المماليك والعثمانيين وما بينهم من فاطميين وأيوبيين وإخشيديين إلى الاستعمار الفرنسي وما بعده الإنجليزي. كل هذه الطبقات جعلت المجتمعات المحلية تنكمش وتنكفئ على نفسها من أجل مقاومة هذا الغريب لتنتج مافيات محلية بدرجات مختلفة لحماية مصالحها أحياناً وأحياناً أخرى لفرض إتاوات على الغريب الذي يحاول حماية تمدده في الأقاليم البعيدة؛ إذ كانت هناك جماعات من العربان ممن يحمون أراضي ملاك الأراضي الغائبين ممن يسكنون المدن وعرفوا بالطبقة الإقطاعية البعيدة أو الغائبة.
في تلك الفترة كانت دولة الخارجي جائرة وكان المجتمع يقاوم انخراطه في ممارساتها بأشكال فيما سماه أستاذنا جيمس سي سكوت «مقاومة الضعفاء» weapons of the weak. فمثلاً كان أهل الصعيد يقطعون الأصبع السبابة للأطفال مع طهورهم (ختانهم)، فغياب هذا الأصبع الذي يضغط على زناد البندقية هو طريقهم للإعفاء من الخدمة العسكرية أو تجنب الانخراط في جيش الباشا.
هذه التراكمات التاريخية خلقت حالة من انعدام الثقة بين الدولة والمجتمعات المحلية، ولهذا تفصيل يطول شرحه.
ولكن لتتضح الصورة لا بد أيضاً من النظر إلى طريقة المجتمعات الأخرى التي مرت بظروف مشابهة ومع ذلك نجحت في بناء الثقة بين المجتمع والدولة عن طريق الاستثمار في المؤسسات الوسيطة التي تجسر الثقة بين المجتمع المحلي (الحارة والقرية والقبيلة والمدينة الصغيرة) والدولة.
في تناوله موضوع الثقة في مجتمع الحداثة يرى أستاذ السوسيولوجي أنطوني جيدنز أن مجتمع الحداثة الذي خلق الفجوة بين الأشخاص (اختفاء ظاهرة الثقة المبنية على اللقاء وجهاً لوجه) عن طريق النقود وعوامل التباعد الأخرى (distanciation) عمل جاهداً لبناء وسائط الثقة عن بعد من خلال مؤسسات البنوك وغيرها للتأكيد على أن التباعد لا يعني انعدام الثقة في المجتمع وخلق معايير صارمة للتأكد من هذه الثقة. فمثلاً نحن نركب السيارة ودونما تفكير لا نشك أنها ستتحرك وأن كوابحها (الفرامل) تعمل وذلك لثقتنا في الشركة المصنعة رغم أننا لا نعرف القائمين عليها. ثقة أنتجها البراند أي اسم الشركة والتجربة والممارسات اليومية.
المشكلة الرئيسية في مجتمعاتنا التي يصعب تصنيفها (أكانت حديثة أو تقليدية أو ما بينهما) هي غياب المؤسسات الوسيطة لصناعة الثقة.
نتيجة غياب الثقة يصبح المجال العام ضيقاً وذلك لتسيد الثقة المحلية والشك في البعيد أو تسيد أخلاق العائلية اللاأخلاقية والتي تجعل من الأطفال يشقون كرسي الأتوبيس للحصول على الإسفنج الداخلي لعمل كرة مثلاً أو سرقة لمبات أعمدة الإنارة في الشوارع، وذلك لأن الخاص أهم من العام، نظافة البيت وإلقاء القمامة في المجال العام أو الشارع (والقمامة بمعناها الواسع، القمامة الفعلية والقمامة اللفظية والسلوكية).
غياب المؤسسات الوسيطة لبناء الثقة في مجتمعاتنا هي التي تؤدى إلى ظهور البلطجة المحلية كأداة لإدارة الاختلاف المحلي أو القمع على المستوى الوطني.
ومن هنا يكون الاستثمار في بناء المؤسسات الوسيطة لبناء الثقة هو بداية الحل لكثير من أزماتنا المزمنة حتى يتم تفكيك طيف المافيات والانتقال من عالم الغلبة إلى عالم الإقناع في إدارة الخلافات والاختلافات... وللحديث بقية.