د. ياسر عبد العزيز
TT

الإعلام العمومي العربي على المحكّ

لم تكن أفكار إصلاح الإعلام المملوك للدولة شائعة في العالم العربي قبل التغيرات الحادة التي طرأت على عدد من دول المنطقة اعتباراً من عام 2011.
لقد نشأت وسائل الإعلام الجماهيرية في المنطقة في كنف الدولة؛ مكرِّسة وظيفة دعائية لصالح الأنظمة الحاكمة، ومتحررة من قيود الجدوى الاستثمارية وحسابات العوائد المالية، ومعفاة من الخضوع للتقييم الفني، ما دامت تنجح في أداء وظيفتها السياسية.
وبسبب أهمية الدور الدعائي لحكومات المنطقة، فقد استثمرت بوفرة في المنظومات الإعلامية الرسمية. وفي أحيان كثيرة اتخذ هذا الاستثمار سمت التبذير والإسراف، حتى تضخّمت تلك المنظومات، وترهّلت، وهيمن الفساد على إدارة معظمها، وتفاقمت خسائرها وديونها في دول عديدة.
لكنّ أوضاع الإعلام المملوك للدولة لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه راهناً، خصوصاً في تلك الدول التي عرفت تغيرات حادة، وتطالب شعوبها ونخبها بعمليات إصلاح وإعادة هيكلة للمؤسسات الرسمية.
وفي الوقت نفسه، يصعب جداً تصفية تلك المنظومات، سواء بإغلاقها أو خصخصتها؛ وهو الأمر الذي يحتّم إيجاد وسائل عملية ناجعة لإعادة تأهيل تلك المنظومات، بما يحقق مصلحة الدول والشعوب التي أنفقت عليها لعقود طويلة.
لقد ظل الالتباس قائماً في تسمية وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي عُرفت على نطاق واسع بأنها «وسائل الإعلام الرسمية» أو «وسائل الإعلام الحكومية»، في الوقت الذي كان يجب أن تُعرف بأنها وسائل الإعلام العمومية أو العامة.
والشاهد أن دولاً ديمقراطية متقدّمة عديدة تعرف نمط «الإعلام المملوك للدولة»، حيث يُنظر إلى الدولة في هذا الإطار بوصفها «المجموع العام»، وليست الحكومة (السلطة التنفيذية) فقط، ولا النظام (مجموع الأجهزة والكيانات المتحكمة في الأداء العام) فقط، ولكن بوصفها كياناً أوسع، يعمل في إطار تحقيق المصلحة العامة كما يشخّصها المواطنون عبر وسائل المشاركة الديمقراطية.
لقد نشأ مصطلح «إعلام الخدمة العامة public Service Media» في هذا الإطار، ليشير إلى منظومة من وسائل الإعلام التي تعمل على تحقيق أهداف وطنية مثل الحفاظ على الوحدة والاندماج الوطنيين، وتمثيل الفئات المختلفة في المجتمع تمثيلاً عادلاً وشاملاً ومتوازناً، وتيسير المشاركة السياسية والمجتمعية، وتوفير المعلومات والمعارف وصيانة الحق في الاتصال، والدفاع عن المصالح الوطنية المتفق عليها، ونقل ما يجري في العالم إلى جمهور الدولة، ونقل صوت الدولة والمواطنين إلى العالم.
وللقيام بهذا الدور على النحو الأمثل برزت تجارب عدة؛ أهمها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، وهيئة الإذاعة الأسترالية «إيه بي سي»، وتجارب أخرى في بلدان مثل كندا، وألمانيا، والدنمارك. وقد انطلقت تلك التجارب في عملها من واقع سياسي يمكن وصفه بأنه «مستقر» و«ديمقراطي»، يعتمد منهجاً ثابتاً في الفصل بين السلطات، والتوازن والتحقق Checks and Balances المتبادل بينها.
ولكي يقوم إعلام «الخدمة العامة» بدوره؛ طُوّرت قواعد معينة لمساعدته على الوفاء بهذا الدور؛ ومنها أن يكون الإشراف عليه معقوداً لسلطات مستقلة، قابلة للمحاسبة وخاضعة للتقييم، وأن يجري تعيين القيادات، ومحاسبتها، بواسطة الهيئات المستقلة، وليس من خلال السلطة التنفيذية، وأن يكون التمويل من المال العام أو من أموال الإتاوات (مثل تجربة «بي بي سي»)، وألا يرتبط التمويل بأداء دور دعائي لمصلحة الحكومة.
إذا انفردت السلطة التنفيذية بتعيين قيادات وسائل الإعلام المملوكة للدولة وتوفير النفقات اللازمة لتشغيلها، فإنها تطلب في المقابل أداءً دعائياً يخدم خطها السياسي وأجندتها الحزبية. وفي هذه الحال تفقد تلك الوسائل أحد أهم أسباب وجودها؛ أي الاستقلالية، والقدرة على التعبير عن المصالح المختلفة، والمتضاربة أحياناً، على أسس مهنية تضمن التوازن والموضوعية لخدمة الدولة وجمهورها بشكل عادل.
في الأسبوع الماضي، اضطر إعلامي عربي للاستقالة من رئاسة وكالة الأنباء المملوكة لدولته، بعد أسبوعين فقط من صدور قرار تعيينه، إثر اعتراضات حادة من الصحافيين العاملين في الوكالة، إذ رأى هؤلاء الصحافيون أن الإعلامي مقرّب من الحكومة، وعدّوا تعيينه محاولة للهيمنة على الخط التحريري لوسيلة إعلام مملوكة للدولة، وحرفاً لها عن الاستقلالية والأداء المهني، لخدمة تيار سياسي معين، ولذلك عارضوا التعيين وهددوا بالإضراب.
لا تعني استقالة هذا الإعلامي أن المعركة انتهت بطبيعة الحال، ومع ذلك فإن قرار استقالته يشير بوضوح إلى أن مفهوم الإعلام العام ما زال على المحكّ في منطقتنا.