طارق الحميد
صحافي سعودي، عمل مراسلاً في واشنطن. تدرَّج في مناصب الصحيفة إلى أن أصبحَ رئيس تحرير «الشرق الأوسط» من 2004-2013، ورئيس تحرير مجلة «الرجل» سابقاً. محاضر دورات تدريبية في الإعلام، ومقدم برنامج تلفزيوني حواري، وكاتب سياسي في الصحيفة.
TT

غطرسة النظرة الضيقة!

الملاحظ أن التعامل الأميركي - الأوروبي مع الملف النووي الإيراني، أو قضايا المنطقة، أو قرار إدانة الأتراك (العثمانيين) لإبادة الأرمن، لا ينطلق من الوقائع على الأرض، أو قيم حقيقية، بل وفق معطيات داخلية، ونتاج شعارات ومصالح حزبية ضيقة.
إدارة بايدن، واليسار من خلفها، وكذلك بأوروبا، لا يتعاملون مع طهران وفقاً للوقائع التي تقول إن المشروع الإيراني، وبنص الدستور، هو مشروع توسعي، ويؤكد ذلك توغل طهران في أربع عواصم عربية عبر ميليشيات إرهابية تسفك الدماء وتهدم الدولة.
خذ قصة إبادة الأرمن كمؤشر على الانتقائية والحلول بدوافع داخلية، وليس نتاج قيم، والحديث هنا ليس للانتقاص من جريمة الإبادة، ولا دفاعاً عن تركيا وإنما لتتضح الصورة.
مثلاً، لماذا تتم إدانة الأتراك الآن بجريمة وقعت في 1915، ولا تتم إدانة الاستعمار الإنجليزي والفرنسي؟ ماذا عن إبادة الهنود الأميركيين، وسكان أستراليا الأصليين؟
أو كما قال لي أكاديمي: «لا يوجد من فتك وقتل وأباد مثل الأوروبي الأبيض في أميركا اللاتينية، والشمالية، وأستراليا». والتاريخ، وبشهادة الرحالة الإنجليزي وليم جيفورد بلغريف، يؤكد وحشية أوروبا.
يقول بلغريف في كتابه (وسط الجزيرة العربية وشرقها): «فإن العرب في بساطتهم المختلفة لا يزالون يثمنون الدم البشري تثميناً غالياً، وذلك على عكس ما هو سائد في أوروبا الآن»، وهذا الاقتباس من نص كتب بين 1862 - 1863! بل أين واشنطن من الإبادة المستمرة بحق السوريين، وبدعم إيراني، بالرجال والسلاح؟
وعليه، فإن الحلول الغربية، وتحديداً الأميركية، هي بدوافع داخلية، وليس وفقاً للواقع، أو المسطرة القيمية. يحدث ذلك بالتعامل مع إيران نووياً، وتوسعياً في المنطقة، وكذلك بملف التسليح، وانتشار الميليشيات الإيرانية، وذلك تنفيذاً لأجندة باراك أوباما.
أجندة أوباما المؤدلج هي التي أشعلت جذوة اليسار الجديد بأميركا والغرب، وكسرت التابو من أجل دمج إيران بالمجتمع الدولي في تجاهل للواقع، واستجابة لآيديولوجيا صرفة تحولت إلى عقيدة سياسية تخدم مصالح حزبية ضيقة.
لو كان أوباما سياسياً، وليس مثقفاً مؤدلجاً، لما فوّت الفرصة التاريخية للإطاحة ببشار الأسد في الربيع العربي، مما كان سيؤدي لقطع يدي إيران وضرب مشروعها التوسعي، ومنذ الخميني، في المنطقة.
فوّت أوباما تلك الفرصة لإنهاء النمر الإيراني المصنوع من ورق بقطع يد إيران بالمنطقة، وضرب شريان الإرهاب من طهران للضاحية، مروراً ببغداد ودمشق. وفوّت بالتالي فرصة التفاوض مع طهران المترنحة، وأضاع لحظة إحداث التغيير الحقيقي وفقاً للواقع، لكن الآيديولوجيا تعمي وتصم.
وهنا مثال آخر على التعامل مع العالم انطلاقاً من مصالح داخلية ضيقة، وهو الانسحاب الكارثي من أفغانستان، رغم تحذيرات الأمنيين والعسكريين بواشنطن. وربما بعده انسحاب من العراق ينتج عنه انسحاب التحالف الدولي وبالتالي تسليم العراق بشكل كامل لإيران!
يحدث كل ذلك لأن أميركا والغرب لا يتعاملون مع الأزمات والقضايا انطلاقاً من المعطيات على الأرض، وإنما وفق نظرة داخلية ضيقة، وغرور وغطرسة أميركية بقضايا مختلفة، رأيناها بتجاهل ما بعد مرحلة «الجهاد» في أفغانستان، وكذلك باليوم التالي لاحتلال العراق، مروراً بأخطاء ما عرف زوراً بالربيع العربي، وإلى التعامل مع إيران الآن.