سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الزمن الأخضر

تبرعت شركة عالمية شهيرة للمفروشات بمليار يورو، مواكبة منها لقمة المناخ التي دعا إليها الرئيس الأميركي جو بايدن، ومساهمة في الحد من انبعاث الغازات السّامة. وهذه أفضل دعاية، لزيادة شعبية ماركة، في زمن الوباء. وكانت شركة مشروبات غازية، متهمة بأنها من بين الأكثر تلويثاً للبيئة في العالم، تبرعت بأكثر من هذا، وتبين بمرور الوقت أنها تدفع بسخاء في الجهر، وتمعن في الخفاء أذى وتخريباً. وهي ليست استثناء. فمنذ عقدت «قمة الأرض» عام 1992 وأنتجت اتفاقية عالمية، صدّقت عليها 197 دولة، والتعهدات تتوالى، كما الاجتماعات، والخطابات الرنانة، لكن التوحش يتزايد، والجهات المدمرة لا تزال هي نفسها؛ أميركا والصين والاتحاد الأوروبي. ويكاد العالم كله لا يوازي باستهتاره، ما يفعله هؤلاء وحدهم بالكوكب. وإذا أمعنا النظر، وجدنا أن الاستشراس، والتطرف في الاستهلاك، وقضم الجبال، كما تلويث البحار والمياه الجوفية، وتكويم النفايات، بدأ يتزايد، في أكثر الدول بساطة. والأسوأ أن الشركات التي ترغب في الهرب من إجراءات بيئية تفرضها دولة ملتزمة بالمعايير، ترّحل مصانعها إلى بلد أكثر فقراً وأقل وعياً. وفي النهاية النتيجة واحدة. فما يرمى من أطنان البلاستيك على شواطئ الأطلسي من أوروبا وأفريقيا أو الجهة الأميركية المقابلة، سيصبح بفعل حركة المياه، كارثة على الجميع.
الكلام عن المناخ لم يكن يوماً بالجدية التي هو عليها اليوم. فمنذ انتهت الحرب العالمية الثانية، والبشري يعتقد أنه امتلك ناصية قدره بيده، مهما بلغت جرائمه. أما وأن جائحة مميتة باغتت العالم، وقتلت 3 ملايين، ولا تزال تحصد، فالصدمة كفيلة بأن تعيد بعض الوعي إلى نصابه.
كنا نرى جماعة أحزاب الخضر في نهاية القرن الماضي، وكأنهم يتحدثون عن عالم غير الذي نعيش فيه، وبمرور الوقت صارت الأحزاب السياسية كلها بحاجة لأن تتزيا بالأخضر، كي تكسب رضا الجماهير. فرق كبير بين هزال قمة نيويورك للمناخ عام 2019. يوم كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ينظر إلى فواجع البيئة كنوع من خرافة، ثم انسحابه من اتفاقية باريس، وتنافس قادة الدول اليوم على إظهار حسن نواياهم، بما في ذلك الصين. لكن التعويل ليس على خطابات الكبار هذه المرة، بقدر ما هي حساسية الشعوب، ودفعها باتجاه عالم أكثر توازناً، وأقل غبناً، بعد أن أفقروا، واحتجزوا، وخسروا وظائف وأرواحاً بسبب الوباء.
ثمة من حذّر من تتالي الأوبئة، وتزايد وتيرتها، بعد تدمير التنوع البيئي. فقد خسرت أوروبا خلال 30 سنة، ما يقارب 80 في المائة من الحشرات وأكثر من نصف الفقاريات البرية، بسبب فيض استخدام المبيدات الزراعية والأسمدة الصناعية.
في نيجيريا، الوضع مأساوي، أيضاً، بعد فوضى الصيد والاتجار غير المشروع بالحيوانات البرية، ما أدى فعلياً إلى تدمير 3 أرباع الغابات. فأن تقطع شجرة، يعني أن تقتل عصفوراً أو نسراً، وتصحّر أرضاً وتخفّض نسبة الأوكسجين. وفي ماليزيا بسبب الجشع ونحر الأشجار قُضي على مليوني هكتار من الغابات الاستوائية. كوارث بيئية لا تعني تلك البلدان وحدها، بل أمن البشرية جمعاء. فقد أتت فوضى الحرائق وتجارة الأخشاب على 17 في المائة من غابات الأمازون وهي رئة الكوكب ومتنفسه، أي سفكت مساحة خضراء بحجم السلفادور. هذا غيض من فيض الجرائم التي ترتكب، وما يستتبعها من فيضانات، وارتفاع في درجات الحرارة، وانقراض لأنواع حيّة. الطبيعة سلسلة متشابكة، ما أن تكسر إحدى حلقاتها، حتى تتداعى الأخرى. والإنسان إحدى هذه الحلقات الهشة التي يتم التلاعب بمصيرها بلا رحمة.
من الأخبار الجيدة أن مساحة الغطاء الأخضر للأرض زاد 5.5 مليون كيلومتر مربع من الغابات والحقول في الأعوام الـ18 الأخيرة، بفضل نشاط زراعي هائل في بلدين هما الصين والهند. لكنها لن تعوض في أي حال، ثروات الغابات المفقودة. فالزراعة على الطريقة الصناعية، ستؤدي إلى النتائج الأوروبية التي تقتل الحشرات، وتسمم التربة بمرور الوقت، وتجهز على مزيد من الكائنات.
تحاول أن تمسك بطرف خيط في قصة تدمير الكوكب، فيفلت منك آخر. لن تسامح الطبيعة سفاحيها بالسهولة التي يعتقدون. والأصل تهذيب السلوك، والرأفة بمن يشاركوننا الحياة، كي لا يتم الاقتصاص منا بقسوة لا نحتملها. وإذا كان من أمل بالفعل، فهو متأتٍ من إحساس بأن الانقراض هذه المرة لم يعد حكراً على بعض النباتات والقوارض، بل يطال البشر زرافات وليس وحداناً. الأوبئة تتالت في السنوات الأخيرة، وإن لم تتمدد وتتسع كما حال «كورونا». شهدنا «سارس» و«إنفلونزا الطيور» و«جنون البقر» و«إيبولا»، لكن أحداً لم يعر الأمر اهتماماً. سيتكاثر بعد اليوم، النباتيون، وأولئك الذين يرفضون شراء عصائرهم بأكواب البلاستيك، ومن يحرصون على استهلاك كهرباء أقل، ويفكرون قبل تحريك السيارة. المشاعر أصبحت أكثر رهافة. في فرنسا إقبال غير مسبوق على شراء الملابس المستعملة، من باب الحدّ من الاستهلاك. لم يعد التشاوف باقتناء مزيد من القمصان، بل التقليل من استنزاف المواد. وقد تسمع تنبيهاً بأن الإفراط في إرسال الإيميلات، هو صرف غير مجدٍ للطاقة. أكثر من ذلك، بدأت بعض المؤسسات التي تنظم ورشات أو دروساً مدفوعة على تطبيق «زوم»، بتخصيص جانب صغير من المبلغ الذي تتقاضاه من كل طالب، لغرس شجرة، للتكفير عن ذنب استخدام ساعة من الكهرباء، قضاها المنتفع وراء جهازه. هل سندخل الزمن الأخضر بعد «كورونا»؟ وهل سنرى قادة الدول الكبرى الأكثر تلويثاً، على مستوى طموح شعوبهم؟