عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

أميركا... ماذا بعد المحاكمة؟

تنفست أميركا الصعداء بعد النطق بالحكم في القضية التي أثارت أوسع مظاهرات ضد العنصرية منذ حركة الحقوق المدنية في الستينات. فأي حكم غير إدانة الشرطي السابق ديريك شوفان بتهمة قتل جورج فلويد كان سيشعل مظاهرات الغضب مجدداً، ويعمق الانقسام في المجتمع، ويضر بصورة أميركا حول العالم.
لكن الحكم على أهميته ليس سوى خطوة صغيرة في طريق طويل على أميركا أن تقطعه، إذا كان لها أن ترأب الشرخ العميق في المجتمع بدءاً بمعالجة مشكلة عنف الشرطة، وانتهاء بملف العنصرية التي ما تزال متجذرة وماثلة في العديد من مناحي الحياة. حتى الأجواء الاحتفالية أمام المحكمة عقب النطق بالحكم، كانت في الواقع تنفيساً عن الاحتقان الكامن، وتعبيراً عن حجم المشكلة. فالناس كانوا يرددون كلمة «أخيراً... أخيراً» لأن الحكم كان إدانة نادرة لعنف الشرطة ضد مدنيين، لا سيما من الأقليات العرقية. فكثيراً ما رأى الناس رجال الشرطة يخرجون من تحقيقات «شكلية» في حوادث إطلاق النار وقتل مدنيين من دون أن توجه لهم تهم بالتسبب في القتل، أو يدانوا في الحوادث المتكررة التي قتل فيها رجال ونساء وحتى أطفال من الأقليات العرقية، وبشكل خاص من الأميركيين من جذور أفريقية.
لذلك لم يكن غريباً أن يصف الرئيس الأميركي جو بايدن وكثير من المعلقين الحكم بأنه لحظة نادرة في تحقيق العدالة للأميركيين من جذور أفريقية في قضايا عنف الشرطة. ومن هذا المنطلق كان طبيعياً أيضاً أن تنطلق الأصوات الداعية إلى جعل المحاكمة خطوة أولى في طريق الإصلاح الشامل المطلوب للشرطة، ومعالجة الاستخدام المفرط للعنف. فمحاكمة واحدة لن تقضي على مشاعر عدم الثقة المترسخة في أذهان الأقليات والأميركيين من جذور أفريقية إزاء الشرطة، وإحساسهم بأنهم يتعرضون للعنصرية بشكل منهجي.
سؤالان محوريان تركز عليهما الجدل القانوني خلال المحاكمة؛ الأول، ماذا كان سبب الوفاة، أي هل كان الشرطي هو الذي تسبب في وفاة فلويد؟ والثاني، هل كان استخدام شوفين لتلك القوة معقولاً ومبرراً بالنظر إلى الوضع؟
في الرد على السؤال الأول أشار معظم الشهود بمن فيهم أطباء إلى أن فلويد مات مختنقاً تحت ركبة شوفين. واتفق المحلفون (7 نساء و5 رجال) مع هذا الرأي مستندين أيضاً إلى ما شاهدوه بأعينهم في مقاطع الفيديو الكثيرة التي عرضت عليهم أثناء المحاكمة. وفشلت محاولات محامي الدفاع لإقناعهم بأن فلويد كان يعاني من تضخم في القلب، وكان أيضاً متأثراً بتعاطيه المخدرات.
أما بالنسبة للسؤال الثاني فقد جاءت أقوال الشهود والخبراء بمن في ذلك رجال شرطة بأن مستوى استخدام القوة لم يكن معقولاً أو مقبولاً. شرطي يجثم على رقبة رجل مقيد وملقي على الأرض لأكثر من تسع دقائق غير آبه بتوسلاته التي كررها أكثر من 20 مرة قائلاً إنه غير قادر على التنفس. طوال تلك الدقائق كان شوفين يضع يده في جيبه بغطرسة واضحة، ينظر بتحد إلى الناس الذين تجمعوا في المكان، ولا يبدو قلقاً من كاميرات الهواتف التي كانت تصور المشهد المرعب، بل بقي جاثماً على عنق فلويد لمدة ثلاث دقائق بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
كان الرجل يتوقع أن الشرطة ستلتف حوله وتحميه، وأن القضاء سيبرئه مثلما حدث في قضايا أخرى كثيرة، وساهم في تعميق مشكلة عنف الشرطة والعنصرية المنتشرة فيها. لكن هذا لم يحدث هذه المرة، فالقضية هزت ضمير أميركا والعالم وأعادت تسليط الضوء بقوة على قضية العنصرية المستمرة، وعلى استهداف الأميركيين من جذور أفريقية بشكل خاص، كما فتحت النقاش بشكل أوسع حول مشكلة تبدو متجذرة في ثقافة الشرطة الأميركية.
المهم الآن هو ما سيحدث بعد القضية، والخطوات التي ستتخذ حتى لا يبقى الحكم الصادر أول من أمس خطوة رمزية، تعود بعدها الأمور إلى ما كانت عليه. لذلك حرص الرئيس بايدن وكثير من المعلقين على الحديث عن أزمة العنصرية المؤسسية، وضرورة إصلاح الشرطة وتبني قوانين داعمة لذلك. فمنذ مقتل فلويد والاحتجاجات الواسعة التي أعقبته في الولايات المتحدة وحول العالم أصدرت أكثر من 30 ولاية أميركية قوانين جديدة لإصلاح عمل الشرطة، بما في ذلك تقييد استخدام القوة، وإصلاح الأنظمة التأديبية، وفرض المزيد من الرقابة المدنية على الأجهزة الشرطية، والمطالبة بالشفافية في حالات سوء السلوك وذلك بغرض اجتثاث ثقافة التستر على المخالفات التي يرتكبها رجال شرطة أثناء عملهم وفي تعاملهم مع الجمهور لا سيما الأقليات.
ويدعم بايدن أيضاً مشروع «قانون فلويد» الذي تبناه الديمقراطيون في مجلس النواب في مارس (آذار) الماضي، لإدخال إصلاحات في طريقة عمل الشرطة ومواجهة العنصرية المتجذرة في النظام. ويحظر مشروع القانون استخدام الخنق ضمن وسائل الاعتقال، ويلغي الحصانة التي تحمي المسؤولين الذين اتهموا بانتهاك الحقوق الدستورية للآخرين، ويدعو لإنشاء سجل وطني لتتبع ضباط الشرطة الذين تورطوا في سوء السلوك بهدف مراقبة سلوكهم وتصعيد الإجراءات العقابية ضدهم إذا لم يتحسن أداؤهم. لكن مشروع القانون قد لا يمر في مجلس الشيوخ بسبب المعارضة التي يلقاها من الجمهوريين.
عملية إصلاح مؤسسات الشرطة في أميركا لن تكون سهلة أو سريعة، ليس فقط بسبب الانقسامات الحزبية في الكونغرس التي تعطل التشريعات المطلوبة لإصلاح جذري، أو بسبب الاستقطاب المجتمعي الحاد، وإنما أيضاً لأن أنظمة عمل الشرطة معقدة، وثقافة العنف متجذرة، والشكوك في الشرطة قوية من الأقليات. فالأميركيون من جذور أفريقية بوجه خاص يشعرون أنهم مستهدفون من الشرطة، والإحصائيات تدعم شكواهم فيما يتعلق بنسب الاعتقال، وإيقافهم للتفتيش في الطرقات، وإطلاق الرصاص عليهم في الاحتكاكات بالشرطة.
خلال العام الماضي كان ثلاثة أشخاص يقتلون على يد الشرطة كل يوم. فقد أشارت إحصائيات أوردتها وسائل إعلام أميركية إلى وقوع قرابة 1100 حادثة إطلاق نار مميتة من قبل الشرطة على مدنيين في عام 2020 مقارنة بنحو 999 حادثة في عام 2019. وفي الأشهر الثلاثة الأولى من 2021 سجلت 213 حالة إطلاق نار من الشرطة على مدنيين. وشكّل الأميركيون من جذور أفريقية 24 في المائة من القتلى، رغم أنهم يشكلون حوالي 13 في المائة فقط من مجموع السكان. وحتى خلال محاكمة شوفين قتل ثلاثة من الشباب الأميركيين على يد الشرطة، آخرهم المراهقة مكيا بريانت (16 عاماً) التي قتلت برصاص الشرطة في كولومبس (أوهايو) أول من أمس.
أميركا أمامها طريق طويل، وإصلاح الشرطة، لن يكون في الواقع سوى جزء من الحل للمشكلة الأكبر وهي العنصرية التي ما تزال متجذرة ومتغلغلة في كثير من مناحي الحياة. وما يحدث في أميركا سيكون له صداه خارجها أيضاً، لأن العنصرية ليست مشكلة أميركية فقط.