محمود الورواري
إعلامي مصري
TT

أسرار تصريح السيسي الأخير ضد إثيوبيا

منذ أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر، وبدأ يدير أزمة ملف سد النهضة الإثيوبي لم نلحظ أبداً أن تصريحاته اتسمت بهذه الحدة التي اتسم بها تصريحه الأخير، «لا أحد يستطيع أن يأخذ نقطة مياه واحدة من مصر، ومن يريد أن يجرب فليجرب».
- ستكون هناك حالة من عدم الاستقرار قد تمتد لسنوات.
- لا أحد بعيد عن قوتنا، يدنا طويلة.
- مياه مصر خط أحمر.
بقليل من تحليل مضمون هذا التصريح تتولد لدينا مجموعة من الدلالات السياسية.
أول هذه الدلالات «خط أحمر» ذكرها الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفس الحدة والحسم، حين تحدث عن «سرت والجفرة» في الملف الليبي، ووقتها كان كلامه موجهاً إلى تركيا وأيضاً لم يسمّ الرئيس الجهة المستهدفة من الرسالة، وإنما تركها غامضة وفهمها الجميع تماماً كما حدث هذه المرة، حين أشار إلى مياه النيل، وأيضاً فهم الجميع أن رسالته ستحط رحالها في إثيوبيا.
بعد أقل من عام على إطلاق الرئيس السيسي كلمة «سرت والجفرة خط أحمر»، تمت تسوية الملف لصالح مصر، واتضح للجميع أن كلام الرجل لم يكن تهديداً بقدر ما كان إعلان موقف، وبالتالي علينا أن نتعامل مع تصريحات الرئيس تجاه ملف سد النهضة بنفس توقع النتائج التي تمت في ملف «سرت والجفرة».
الدلالة الأخرى، «لا أحد بعيد عن قوة مصر وأذرع مصر طويلة، وأن المنطقة ستمر بحالة عدم استقرار قد تستمر لسنوات».
لا يمكن أن يصرح سياسي بمواصفات الرئيس المصري بهكذا تصريح إلا وهو يضمن في يده ما يجعله يشير إلى أذرع مصر الممتدة والقادرة على الوصول إلى أقصى مدى جغرافي يتحقق معها تطبيق الأمن القومي المصري.
وهنا فوراً يتجه العارفون بعلم السياسة إلى القواعد العسكرية المصرية في الإقليم محل الصراع، وبقليل من البحث ستجد فعلاً أن لمصر قاعدة عسكرية في دولة جنوب السودان في منطقة باجاك، على الحدود مع إثيوبيا، بما يجعلها تبعد 350 كلم عن جسد سد النهضة.
ثم ننتقل إلى تتبع مسار الاتفاقات العسكرية التي وقّعتها مصر مع دول الجوار الإثيوبي التي تجعل أذرع مصر العسكرية قريبة من أي أهداف يفرضها التعنت الإثيوبي.
في هذه النقطة سنجد أنفسنا أمام مجموعة من الاتفاقات العسكرية بين مصر والسودان، خصوصاً الاتفاقية التي وقّعها رئيس الأركان المصري أثناء زيارته إلى الخرطوم وهدفها تحقيق الأمن القومي بين البلدين وحماية الحدود، وهنا نعود إلى كم الانتصارات التي حققها السودانيون في إقليم الفشقة المتنازع عليه مع إثيوبيا، حيث حقق الجيش السوداني نصراً جعله يستعيد الجزء الأكبر والأهم من الإقليم.
ثم المناورات العسكرية التي تجري بين البلدين، آخرها مناورة «نسور النيل 2» التي تمت في قاعدة مروي شمال السودان، والمناورة عبارة عن طلعات جوية وقوات صاعقة، وسبق هذه المناورة مناورة أخرى تمت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
كل هذا يتم بين البلدين في إطار لجنة عسكرية مصرية - سودانية مشتركة دائمة التنسيق والانعقاد.
أما دلالة عدم الاستقرار التي أشار إليها الرئيس، فهي تعني أنه إذا حدث صراع عسكري إثيوبي - مصري، فلن يكون صراعاً خاطفاً، وإنما يمتد، بمعنى إنهاء كل ما يمكن أن يشكل تهديداً للأمن القومي المصري والسوداني عبر أي سدود يمكن لها أن تكون موجودة أو خُطّط لبنائها، ومعروف أن سد النهضة والسد الكبير هو واحد من عشرة سدود كان الإثيوبيون ينوون بناءها منذ منتصف ستينات القرن الماضي إبان بناء السد العالي المصري، وقتها كان في إطار المناكفة الأميركية مع الروس الذين دعموا عبد الناصر في بناء السد العالي.
إذا كانت هذه هي الدلالات التي تم استخلاصها من خطاب الرئيس السيسي هل بلغة السياسة يمكن أن نسمّي تصريح الرئيس بأنه تهديد أو إعلان حرب كما أطلق عليه البعض؟
إطلاقاً، ما نحن بصدده الآن وبلغة الاستراتيجية العسكرية يسمّى «إعلان موقف»، إذا كان كذلك، فما هو الموقف الذي أعلنه الرئيس؟
الموقف الذي أعلنه الرئيس السيسي هو انتقال مصر إلى مرحلة الاقتدار والغلبة في مواجهة الخصم وهو إثيوبيا.
وهل كانت مصر ما قبل هذا التصريح ليست في مرحلة الاقتدار الكامل والغلبة؟
نعم، مصر لم تكن في مرحلة القوة التي هي عليها الآن، لكنها نجحت عبر خمسة أعوام من الصراع الساخن مع إثيوبيا في قلب موازين القوى لصالحها، وكان ذلك عبر ما يطلق عليه في علم إدارة الصراع السياسي «تفكيك التحالف الداعم للخصم». تفكيك التحالف الداعم لإثيوبيا كان مكوناً من أربع دول (تركيا – إسرائيل – قطر – سودان البشير).
السودان الآن المتوافق مع مصر في أزمة السد، ليس هو سودان البشير المناكف لمصر والداعم لإثيوبيا على طول الخط؛ فالبشير يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تعقيد الملف وتأخير الحل؛ مما أعطى إثيوبيا فرصة الانتهاء من الجزء الأكبر من بناء جسم السد.
ومن دون السودان الداعم ما كان للرئيس السيسي أن يشير إلى أذرع مصر الممتدة ومعه دولة جنوب السودان الداعمة أيضاً.
أيضاً الأتراك الداعمون على طول الخط لإثيوبيا ما عادوا كما كانوا سابقاً.
إردوغان الأمس، وتحديداً عام 2015 وأثناء زيارته لأديس أبابا وقّع اتفاقات عسكرية، وتحديداً في منظومة الدفاع الجوي التي تحمي السد حتى الآن. إردوغان أعلنها صراحة أنه يريد استنساخ التجربة الإسرائيلية حين وقّعت مع إثيوبيا عام 1956 اتفاقية «الرمح الثلاثي» التي كانت تسعى لخنق مصر عبر مياه النيل.
إردوغان الآن وأخيراً دخل في توافقات مع مصر نتج منها ما تابعناه في الأيام الماضية. إذاً تركيا ما عادت داعمة لإثيوبيا كما كانت سابقاً.
وهكذا إسرائيل التي نجحت مصر في إدخالها في شراكة «منتدى غاز شرق المتوسط» الذي تم توقيعه عام 2019 وأصبحت غير قادرة على خسارة الدور المصري مقابل مناكفات سياسية في القرن الأفريقي.
أما قطر التي كانت داعمة بالمال لإثيوبيا فبعد المصالحة الخليجية وعبر الضمانات السعودية والإماراتية لا يمكن أن تدخل في تحالفات ضد مصر.
في الختام، تصريح الرئيس هو محصلة خمسة أعوام من العمل الدبلوماسي الهادئ نجحت مصر من خلاله في تفكيك حزام القوة الإثيوبي.