جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

دبلوماسية الخطوط الحمراء

كانت مياه القناة تعكس أضواء الشمس، بينما تطلق السفن صافرات التحية من خلفنا. هنا في حضرة الرئيس عبد الفتاح السيسي، جاءت اللحظة مغايرة تماماً. التاريخ يعانق الجغرافيا، مصر تتحدث. تعويم السفينة «إيفر غرين» بسواعد الأبطال، إنما هو نصر جديد يضاف إلى سجلات التاريخ. هنا عنق ورقبة الجغرافيا المصرية، وأيضاً شريان التاريخ المصري.
جنوح السفينة هو التحدي، لكن عبورها صار فرصة تليق بحجم ومعنى قناة السويس. أمواج ورياح متلاحقة، أيقظت بداخلنا لحظات النصر والعبور. شدت على أيادينا بالصبر والوحدة والقوة، شريان العالم استدعى بالضرورة شريان الحياة. قضية مياه نهر النيل.
تلك القضية التي كانت حاضرة في شكل سؤال على لسان جميع الحضور، تنافسنا نحن الصحافيين في طرحه على الرئيس، فجاءت الإجابة القوية القاطعة على لسان الرئيس السيسي:
«بقول للناس كلها محدش هيقدر يأخذ نقطة مياه من مصر، واللى عايز يجرب يجرب. إحنا مش بنهدد حد، وعمرنا ما هددنا حد قبل كده، وطول عمرنا حوارنا رشيد جداً، وصبور جداً، لكن محدش هيقدر ياخد نقطة ميه من مصر، وإلا هايبقى فيه حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد. محدش يتصور إنه بعيد عن قدرتنا، عمري ما اتكلمت كده علشان ميتفهمش إننا بنهدد حد، لكن مياه مصر لا مساس بها، والمساس بها خط أحمر». انتهى كلام الرئيس السيسي، لكن بدأت تتبلور لدينا دبلوماسية قوية وواضحة بعنوان دبلوماسية الخطوط الحمراء. رسمها الرئيس من قبل في شهر يونيو (حزيران) الماضي عندما قال «سرت... الجفرة... خط أحمر»، وكان يعلم جيداً أن المشهد الليبي آنذاك يحتاج إلى هذا الموقف وتلك اللغة. نعم قاموس الحسم أفضى إلى بشائر الحل في ليبيا.
الرسالة كان هدفها إحلال السلام وليس اندلاع الحروب، التهدئة وليس التهديد، لكل موقف قرار، ولكل قرار رسالة، ولكل رسالة لغة، ولكل لغة أهدافها.
في ليبيا كانت الرسالة واللغة واضحتين، في مشهد فاض الكيل فيه، ولم يحتمل تأجيلاً أو مزيداً من الصبر. الأمن القومي المصري والعربي كانا مهددين. أدرك أطراف الصراع خطورة ومخاطر الخط الأحمر. جنحوا للسلام من أجل الصالح العام.
دبلوماسية القاهرة لم تكشر عن أنيابها من دون دراسة. التوقيت يفرض اللون المناسب لرسم الخطوط.
مصر قالت كلمتها، ولم تتخل عن دبلوماسيتها، أرست أمام العالم منهجاً في ليبيا، وترسمه من جديد أمام العالم على ضفاف قناة السويس، لكن هذه المرة يتعلق «الخط الأحمر» الذي رسمه الرئيس السيسي بحياة 150 مليون مواطن مصري وسوداني. قضية وجود وحياة. مياه مصر لا تحتمل العبث بها. مراوغات وتعنت أديس أبابا لن تقبلها القاهرة والخرطوم.
عشر سنوات من المفاوضات وحسن النية، والصبر الاستراتيجي، لكن إثيوبيا انتهجت سياسة المماطلة، وإضاعة الوقت، وتفريغ المفاوضات من مضمونها، وطرح آراء وأفكار بعيدة عن قانون الأنهار الدولية، فمن يقرأ تفاصيل المراحل التي مرت بها المفاوضات، يتأكد له أن أديس أبابا عملت على تشويش المفاهيم الرئيسية، وضربت عصب الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالأنهار العابرة للحدود، فعلى سبيل المثال ترفض الالتزام بأي نهج أو اتفاق ملزم حول قواعد الملء والتشغيل لسد النهضة، بل إنها تريد فقط الالتزام بمبادئ عامة إنشائية غير ملزمة.
اللافت للنظر أيضاً أن الجانب الإثيوبي يحاول توظيف أهداف ومسارات التفاوض لصالح أجندة داخلية شعبوية، إذ إن الصراع الدائر الآن بين القوميات الإثيوبية، لا سيما التيغراي والأمهرة والأورومو، كفيل بدفع النظام الإثيوبي لتوظيف قضية سد النهضة من أجل تحقيق مكاسب سياسية داخلية، يحاول من خلالها النظام تبييض وجهه في ظل اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في إقليم تيغراي.
هذا فضلاً على أن التعنت بلغ مداه عندما أعلنت أديس أبابا رفضها الالتزام بحصة مصر والسودان من المياه، وعدم احترام اتفاقية 1959، التي تقول إن لمصر 55 مليار متر مكعب سنوياً، والأدهى من كل ذلك، أن الجانب الإثيوبي يرفض تبادل المعلومات بشأن مواسم الجفاف والجفاف الممتد، وهو ما يعرض حياة الملايين في دولتي المصب للعطش وإحداث خلل في إنتاج الكهرباء.
التعقيدات مستمرة بتوقيع أديس أبابا. بصمات التلاعب بمصائر الشعوب واضحة. التراجع في التعهدات والوعود كشف نيات سيئة تجاه مصر والسودان.
وسط كل هذه الأجواء غير المشجعة، جاء رسم الرئيس السيسي للخط الأحمر فيما يتعلق بمياه النيل لتضع النقاط فوق الحروف، وتؤكد صلابة الموقف المصري والسوداني، ومن خلفهما الموقف العربي الداعم، لا سيما أن المؤشرات تقول بأن عقارب الساعة تقترب من شهر يوليو (تموز)، وهو موعد الملء الثاني لبحيرة سد النهضة، بينما المفاوضات لا تزال تراوح مكانها. الآمال معلقة على وساطات دولية مثل الوساطة الدولية التي اقترحها السودان وأيدتها مصر، وتمثلت في ضرورة تدخل الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي.
ففي حالة عدم نجاح هذه الوساطات، فمن المؤكد أن تجاوز الخط الأحمر أمر سيكون مرفوضاً من شعبي مصر والسودان، بل إن تجاوزه أيضاً يمثل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة والإقليم.