مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

هل تغيرنا الأحداث؟

يرى علماء الاجتماع، من أبرزهم إميل دور كايم، أنَّه لا فائدة من طرح المشكلة الخلقية على المستوى الفلسفي، ما دامت الأخلاق موجودة بالفعل في العادات والتقاليد، ويكفى إذن وصفها بأن الواجب الخلقي في نظره صدى للضمير الجمعي، من ثم تناولت البحوث الإشكاليات التي تواجه فلسفة التربية في ضوء متغيرات المعرفة والمعلوماتية التكنو - اجتماعية التي غيرت البناء الاجتماعي ونظامه وقواعده، وإعادة صياغة جديدة للنظام الاجتماعي والثقافي والتربوي بما يساعد هذا الوجود على التكيف والتفاعل والعمل والإبداع والابتكار، لأنَّ ثورة المعرفة والمعلومات وتكنولوجيا الاتصالات لم تكن مقصورة على المجتمعات كبيرة المساحة التي تنتجها، أو الدول المتقدمة، أو ضخمة السكان، أو الغنية بمواردها، إنَّها ثورة يمكن لجميع الشعوب أن تخوضها إذا أحسنت إعداد أبنائها تربوياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً.
ومع أنَّ الإنسان تتملكه نزعات داخلية تتعارض مع الأخلاق في جوهرها، وتسلب القيمة التي تحتفي بها الحياة، فقد ظلَّ هذا الإنسان يتشكل حسب المعاملات الاقتصادية التي يتم قيدها بمعية البنية الأساسية الاجتماعية، فإما يسجل للقيم إضافة، أو تنخفض مميزاته وحدوده وشروطه مع الآخر، وتكون حصيلة مجهوده متدنية، ويستمر في التعويض إلى أن يتحول إنجازه إلى دوافع عدائية كمعاناة تعزل مهامه عن بعضها بعضاً.
فالمتغيرات العالمية المعاصرة: السياسية، الاقتصادية، المعرفية، المعلوماتية (التقنية) والثقافية وانعكاساتها على التربية بشكل عام، تشكل عدم الاكتراث بالتغييرات الاجتماعية، ونستنتج من ذلك ما قاله علماء الاجتماع من أن الحقائق المطابقة لا تحمل أي قيمة في تاريخ الفكر البشري، بل إنَّها قد تكون مؤذية وهدامة، لذلك يتم استبدال الأوهام المفيدة بها التي تستمد قيمتها من قدرتها على حفظ البقاء واستتباب السلم والأمن، وتستثمر مشاعر الرأفة أمام شقاء الآخرين، ولا ريب أنَّنا ما لم نتذكر مآسينا، فإنَّنا نكون على الدوام في خطر نواجه الوقوع مجدداً فيه، فأعلى معدلات قتل وموت في العالم من نصيب منطقة الشرق الأوسط، فلكل حركة تأثير على مصير الناس وعلى مجرى الأحداث، فمهما كانت المشاهد مختلفة كالساعة والنجوم وأجهزة نقل الحركة الأتوماتيكية، فجميعها تعبر عن صورة عن النظام الاجتماعي في أي مكان.
مما يهم الوقوف عليه وقوفاً تاماً سبب الفروق التي تعمق فهمنا بشدة للعالم، من خلال تأكيد وفهم الإحساس المتزايد لدى الناس بأن تفاصيل حياتهم وأفكارهم يتم مراقبتها من الحكومات والشركات، والآخرين الذين يقتحمون حياتهم على الشبكات الاجتماعية، وذلك خلق نوعاً من القلق والتوتر، وأيضاً في الواجبات، وهكذا إذا كان تأرجح مستوى التغييرات منذ انتشار الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة؛ كل هذا يحدث اليوم ببساطة شديدة وسهولة ويسر، وأثره الواضح زادت وتيرته مع تطور تقنيات الذكاء الصناعي والبيانات الضخمة، وسرعان ما استفاد البشر منها بشكل أساسي على فهم سلوكيات الجماهير، وتحليلها واستغلالها لصالح الشركات التقنية والمعلنين.
كان ذلك مقياساً للمواقف السائدة، وقد علم الجميع أن التغيير الثاني في عصرنا هو زمن جائحة «كورونا» (كوفيد - 19)، ربما كان تحليل أهم المتغيرات العالمية المعاصرة، هو ما نتج عنها من تأثيرات وأمور عجيبة فكرة غير صائبة لما تواجهه اليوم من أزمات اقتصادية وسياسية ومواجهات ومعارك، بين الزمن والوباء الذي قلب موازين العالم في ظروف اقتصادية صعبة للغاية، وأصاب الوباء الاقتصاد في جميع أنحاء العالم بالركود، والنتيجة إصابات بالملايين ووفيات تجاوز مليونين ونصف المليون، وازدياد البطالة، فهناك حوالي 100 مليون موظف حول العالم فقدوا وظائفهم، وتم ضخ أكثر من 15 تريليون دولار عالمياً لتجاوز الأزمة، ولكن مع ذلك تظلُّ الخيارات مفتاح الأمل مهما كانت محدودة، إنَّه بحق هروب من الحياة ومن دوافع الموت وأشكال الصراع والعدوانية التي نراها اليوم بين البشر، فإلى أي مدى تكون العلاقة مبتورة ومغلقة؟
لا أعلم كيف بوسعي أن أسأل متى نهرب من الأمور التي تؤرقنا والتي أفرزتها هذه الجائحة، فالإنسان بالعالم أجمع يعاني، ويرسل صوراً مؤلمة تتسابق على عرضها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء لترسل مشاهد مأساوية عن الحروب وتداعياتها، والوباء ما زال يحصد الأرواح من دون هوادة، وتم تسجيل أكبر ارتفاع للإصابات بـ«كورونا» في العالم، وفي تقرير أصدره صندوق النقد الدولي أن «الجائحة كشفت عن عدم المساواة في الحصول على الخدمات الأساسية - كالرعاية الصحية، والتعليم عالي الجودة، والبنية التحتية الرقمية، التي قد تتسبب بدورها في استمرار فجوات الدخل جيلاً تلو الآخر». كما لفت الصندوق إلى أنَّ الرقمنة المتسارعة التي نجمت عن الجائحة تجعل من الصعب على العمال ذوي المهارات المتدنية العثور على عمل.
أسقطت هذه الجائحة أسطورة تفوق دول عظمى في مواجهتها، بعد أن عمَّت فوضى انتشار الوباء فيها، ويبدو أنَّ آخر أوهامنا هو اعتقادنا أنَّ الغرب يتفوق علينا إنسانياً، وها نحن كعقارب ساعة تسابق الزمن تدور في فلك مجنون تعيد للأذهان تلك الدقائق التائهة على حدود الزمن لتجعلنا في المقدمة، ويظلُّ السؤال يتردَّد في هذه الحالة كيف ستتكيف شخصياتنا الجديدة، وتشعر أنَّ نبض الحياة طبيعي مع الوضع الناجم عن استئناف التعامل مع الآخرين، والسفر مجدداً إلى فضاءات رحبة تعيد البشر إلى طبيعتهم البشرية الآمنة؟