رغم كل حرياتهم المُهددة، فإنه لا تزال الأغلبية الساحقة من سكان هونغ كونغ يتحدثون اللغة الكانتونية، مع استخدام اللغة الإنجليزية والماندرين بشكل هامشي فقط، وهو ما يرجع لارتباط اللغات الأم ارتباطاً وثيقاً بالشعور بالذات، وهو السيناريو الذي يبدو كحقيقة واقعة في مناطق مثل منغوليا الداخلية والتبت وشينجيانغ، وهي المناطق التي تتمتع بالحكم الذاتي ولكن يتم فيها خنق اللغات المحلية، والثقافة، والدين باسم التقدم الاقتصادي والأمن القومي.
ويعد الجدل حول اللغة أمراً محفوفاً بالمخاطر في أي مكان، ولكن بالنسبة للصين وروسيا، فإن الأمر يعد أكثر من ذلك بكثير، فقد أصبحت كل من بكين وموسكو بمثابة ساحات قتال يتم استخدام السياسة فيها كوسيلة لوجود تجانس بين كافة السكان وفرض نسخة واحدة من الهوية الوطنية، حيث تتمتع الأقليات بحقوق لغوية على الورق فقط.
ولكن مع تشديد كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني، شي جين بينغ، سيطرتهما على مجتمعاتهما، فإن الواقع يبدو مختلفاً، حيث إنه من بين سلسلة من التغييرات في الدستور في 2020 للتحضير للمراحل الأخيرة من حكم بوتين، اختار الكرملين رفع مكانة العرق الغالب في البلاد من خلال وصف اللغة الروسية بأنها «لغة الشعب المكون للدولة».
وسيطرت موسكو على المنطقة التي تقع فيها من العالم على مدى العقدين الماضيين، ولحماية الناطقين بالروسية، فقد قللت من دور اللغات الأخرى التي يتم التحدث بها في أكبر دولة في العالم، حيث تم تصوير التعليم الإلزامي للغات الأقليات بأنه يؤدي إلى تراجع اللغة الروسية، وهو ما أدى لإيقاف تدريس هذه اللغات، وذلك رغم الغضب في مناطق مثل تتارستان، التي يعتبر نصف سكانها تقريباً التترية كلغتهم الأم.
وفي الصين، التي يوجد بها مئات اللهجات واللغات من اللغة المستخدمة في شنغهاي إلى لغة المانشو التي باتت تتلاشى، تعرض أولئك الذين يتحدثون بلغات مختلفة عن أغلبية السكان من سلالة الهان لضغط خاص، حيث تشكل المجموعات غير التابعة للهان أقل من 10 في المائة من سكان الصين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، لكنهم يتحدثون مئات اللغات ويتم دفعهم بشكل متزايد إلى الضواحي، كما يتم وصمهم بأنهم فقراء ومتخلفون، وذلك رغم الوعود بالتنوع، حيث يتم الترويج للغة الماندرين باعتبارها المسار الوحيد للتحسين في البلاد، كما يتم استخدام المدارس وقنوات الإذاعة والمطبوعات باعتبارها أدوات تحكم في اللغة السائدة.
وقد تم تقليص توفير تعليم اللغات المحلية بشكل تدريجي، وهو الأمر الذي يبدو أكثر وضوحاً في التعامل مع اللغات الأصلية، كما هو الحال في التبت، التي شهدت احتجاجات واسعة النطاق على المدارس في 2010. حيث أصبحت مدارس الماندرين الداخلية أكثر شيوعاً في جميع المجالات، حتى منغوليا الداخلية، التي يُنظر إليها عادة على أنها تواجه تهديداً أقل للغة، وجدت نفسها مضطرة إلى استبدال لغة التدريس العام الماضي، مما أدى إلى مظاهرات، بينما أبقى الآباء أطفالهم في المنزل بعيداً عن المدرسة.
وقد قامت بكين بقمع الثقافات التي يُنظر إليها على أنها انفصالية ومزعجة، وتم تبرير هذه الخطوات بالحاجة إلى التخفيف من حدة الفقر ودعم الحراك الاجتماعي، وليس من قبيل المصادفة أن تتعرض منغوليا الداخلية للتحذير في المؤتمر الشعبي الوطني، في وقت سابق من هذا الشهر، كما تعاني مجموعات أخرى من الإهمال وعدم الاعتراف المطلق.
ودائماً ما يتعلق اختيار اللغة بأكثر من مجرد الحاجة إلى التواصل مع الآخرين، وهو ما أدركته بينما كنت أعاني أثناء تعلم اللغة الأفريقية بشكل إلزامي في المدرسة الابتدائية في جنوب أفريقيا في عصر الفصل العنصري، حيث لم يكن يتم تدريس اللغات الأفريقية التي يتحدث بها معظم السكان.
وعادة ما تحاول البلدان الموازنة بين الحاجة إلى التواصل مع تحقيق المساواة والحماية الثقافية للسكان، وعلى سبيل المثال تكافح إندونيسيا والهند ودول أخرى مع التحديات السياسية التي تأتي مع كونها دولاً متعددة الثقافات، فتقدم قناة «All - India» الهندية برامج بـ23 لغة و179 لهجة.
ولكن إهمال اللغات الأخرى يعد أمراً شائعاً خارج الصين وروسيا أيضاً: فقد بدأت نيوزيلندا مؤخراً فقط في إحياء لغة الماوري الخاصة بالسكان الأصليين.
والفارق بين موسكو وبكين هو أن هناك عدم تكافؤ متزايد في القوة، فالجهود المبذولة لفرض لغة واحدة ترجع قوتها للتسلسل الهرمي السياسي في البلاد، وهي السياسات التي تذكرنا بإسبانيا في عهد فرانسيسكو فرانكو، والتي سعت إلى إنشاء دولة موحدة ومركزية جزئياً من خلال اللغة، وقد كان تأثير ذلك قاسياً بشكل خاص على إقليم الباسك وكاتالونيا.
وبالنسبة للصين، فقد اشتملت مناقشات بناء الأمة في أوائل القرن العشرين على مناقشات حول وجود لغة مشتركة، ولكن اليوم، حتى لغة الهان العامية تم إهمالها أيضاً، حيث تتمتع اللغة الكانتونية بحماية شديدة في أجزاء من الجنوب وهونغ كونغ، وقد كانت هناك احتجاجات في مدينة غوانغتشو الجنوبية في 2010 عندما سعت السلطات إلى الحد من البث باللغات المحلية، لكنها لا تزال توصف في الخطاب الرسمي على أنها لهجة، وليست لغة في حد ذاتها.
ويبدو أن المشكلة تكمن في السيطرة، كما هو الحال في تعامل بكين مع مسألة الدين، فصحيح أن الاستئصال ليس هو الهدف المعلن للحكومة، ولكنها هي من تضع كل القواعد، كما أنها هي من تضع الصور التي يتم عرضها من فصول اللغة في جميع أنحاء العالم كنسخة واحدة فقط تتحدث لغة الماندرين، بدلاً من نسخة تعددية، وذلك رغم الشتات الذي يتحدث العديد من اللغات واللهجات الصينية.
وفي روسيا، فإن الضغوط تبدو مختلفة، لكن الدوافع متشابهة، فمع وجود القليل من الأدلة على الحماس الانفصالي في التسعينات، فإن السياسات الأكثر تشدداً الخاصة باللغة تكشف عن الخوف المتزايد في عهد بوتين.
ولكن مثل هذه السياسات تؤدي لفقدان الهوية، ناهيك عن الفرصة السياسية الضائعة لبناء الاستقرار الذي يأتي مع التمثيل العادل والتنوع، ولكن لم يفُت الأوان بعد للنظر في نماذج أخرى.
فقد أنشأت سنغافورة نظاماً رغم أنه ليس مثالياً أو متعدد اللغات عبر جميع المجموعات العرقية ثنائي اللغة إلى حد كبير مع استخدام اللغة الإنجليزية ولغات أخرى، كما أنه يبدو أن سياسة التعليم الجديدة في الهند التي تم إدخالها في 2020، أن جميع من يتخذون القرارات القومية للحزب الحاكم، قد استسلموا للدول غير الناطقة بالهندية من خلال تبني استراتيجية اللغة الأولى التي تسمح لأن يتم التدريس الأساسي باللغات المحلية، وهو الأمر الذي غالباً ما يتم تفضيله في الاقتصادات النامية.
ولكن لسوء الحظ، فإنه لا تزال روسيا والصين تسيران في الاتجاه المعاكس، وهو ما سيؤدي إلى خسارة الجميع.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:7 دقيقه
TT
موسكو وبكين وحرب اللغات المحلية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة