د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

ماذا بعد «التودد» التركي تجاه القاهرة؟

ثمة انفراجة، أو بالأحرى «كوة» محدودة في السلوك التركي تجاه القاهرة. التصريحات التي أدلى بها كبار المسؤولين الأتراك بمن فيهم الرئيس إردوغان نفسه، حول بدء صفحة جديدة مع مصر، واتخاذ خطوة رمزية تتمثل في فرض تغيير رئيسي في الخطاب الإعلامي للقنوات الإخوانية التي يتمُّ بثُّها من تركيا بما «يراعي ميثاق الشرف الإعلامي» حسب التفسيرات التركية، والابتعاد عن توجيه أي انتقادات للحكم والقيادة السياسية المصرية، تمثل أحد الأفعال التي تطالب بها القاهرة لتشكيل مناخ يساعد على تجاوز مرحلة العداء التركي، وفتح الملفات العالقة بين البلدين. ورغم أهمية هذا الفعل؛ فهو لا يُلبّي كلَّ المطالب المصرية، وأهمها عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والامتناع عن الأفعال التي تهدد الأمن العربي والإقليمي، لا سيما أمنَ دول مثل ليبيا وسوريا والعراق، وغيرها.
الحاجة التركية إلى تغيير البيئة الإقليمية المُحيطة بها بكل ما فيها من ضغوط وعزلة ومحاور وتكتلات وشراكات اقتصادية وسياسية تخصم بقوة من الدور والتأثير التركي، تمثل دافعاً مهماً يقدم بعض التفسيرات للتحول من عداء سافر وفجاجة في الخطاب، وحشد إرهابيين بصفتهم معارضين، وتدخل عسكري خطير في بلد جار يمثل خطاً أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري، إلى رغبة قوية في تجاوز تلك السياسات أو على الأقل ضبطها. كما أنَّ الأزمة الاقتصادية التركية، وتراجع الاستثمارات الخارجية وانخفاض السياحة أكثر من الثلثين، والانخفاض المتتالي لليرة التركية مقابل الدولار، والتضخم المتصاعد شهراً بعد آخر، وتخبط السياسات النقدية، ومقاطعة دول عربية مهمة للاقتصاد والتجارة التركية، تقدم جملة من الدوافع الداخلية لإعادة توجيه البوصلة السياسية التركية إقليمياً.
أما دولياً، فهناك توافق على أن مساعي أنقرة لتغيير بوصلتها السياسية في عدد من الملفات مرتبطة بتوجهات إدارة الرئيس بايدن، التي لديها الكثير من الانتقادات للرئيس إردوغان وطموحاته الإقليمية ومغامراته العسكرية، وعلاقاته مع الرئيس الروسي بوتين، ومواقفه العدوانية تجاه أعضاء آخرين في حلف الناتو كاليونان وقبرص.
هذه التفسيرات المقبولة منطقياً لا تنفي أن هناك أبعاداً أخرى لا تقل أهمية عن كل ما سبق ذكره، وهي تتعلق بحجم تأثير من يسمون أنفسهم المعارضة المصرية، والتي ثبت للأجهزة التركية أنَّها غير مؤثرة، وفاقدة للجذور في الداخل المصري، ويغلب عليها مجموعة من الإعلاميين أو أنصاف الفنانين الذين يتنافسون فيما بينهم حول حجم الدعم المالي والولاء لتركيا ومطالب أجهزتها الأمنية. أما القيادات الإخوانية البارزة، فحولت ما تدعيه من معارضة إلى مكاسب خاصة وأعمال غير قانونية. أما الأتباع الصغار فلا وزن لهم من الناحية السياسية.
بالنسبة للمستقبل القريب، فثمة إشكالية عدم الثقة في تقييم تلك الخطوات التركية كتغير استراتيجي وليس موقفاً تكتيكياً قصير النظر، يستهدف الالتفاف على كل أو بعض الضغوط المُشار إليها. إشكالية عدم الثقة من شأنها أن تجعل التقبل المصري للتوجهات التركية الجديدة مُحاطاً بالحذر والتريث. فرغم تبلور نظرة مصرية عامة بأن مواقف التودد التركية والرغبة في التقارب، تعبر عن انتصار دبلوماسي مهم يجسد صلابة الموقف المصري منذ 2013، وقدرته على تجاوز كل التداعيات التي حفزتها تركيا مباشرة، أو عبر الموالين لها، فهناك أيضاً حالة انتظار وترقب. وفي التفاصيل، توجد بعض شكوك حول النوايا التركية تجاه ملفات حيوية متعددة؛ لا سيما ما يتعلق بوقف أشكال التدخل كافة في الشأن المصري الداخلي، والقبول التام بلا شائبة بنظام الحكم في مصر باعتباره اختياراً شعبياً مصرياً خالصاً وليس انقلاباً وفقاً لما اعتادت عليه الآلة الإعلامية التركية، والالتزام التركي بالأمن القومي المصري، خاصة امتداده المباشر في الجار الليبي، ومدى احترام أنقرة لسيادة دول عربية كسوريا والعراق، والتخلي عن نوازع التمدد العسكري ووقف عمليات «التتريك» للمناطق التي تحتلها القوات التركية في الشمال السوري، والتخلي عن مجموعات المرتزقة السوريين وغيرهم الجوالين بين مساحة جغرافية وأخرى بمشورة وقيادة استخبارية تركية مباشرة.
حتى اللحظة، ليست هناك دلائل قوية حول توافر نوايا تركية - إردوغانية «طيبة» تجاه تلك الملفات الصعبة والمعقدة، والتي تتداخل مباشرة مع طموحات إردوغان وما يؤمن به من مجد عثماني يتوجب استعادته بكل أدوات القوة الصلبة أياً كانت المعارضات والانتقادات الدولية. ومن المرجح أن تكون بعض تلك الملفات خاضعة الآن لحسابات تركية جديدة، تسعى لإيجاد مخارج لها بما يحفظ ماء الوجه الرئاسي، لا سيما أمام الرأي العام الداخلي. والمرجح أيضاً أن بعض هذه الملفات، لا سيما التي تجرح تماماً الصورة الذهنية المتوهمة عن الرئيس إردوغان «المُناصر للمعارضات الوطنية وحقوق الإنسان، وحامى المسلمين في بقاع الأرض»، هي ملفات ذات طابع أخلاقي، تتعلق بمدى التخلي عن هؤلاء وتركهم لمصيرهم الضائع، أو فرض الانسحاق التام عليهم أمام المعادلات الجديدة الآخذة في التبلور.
ورغم ندرة الدلائل على النوايا التركية تجاه بعض أو كل هذه الملفات، فهناك دلالات مهمة لا ينبغي تجاهلها؛ أولها أن هذا الانعطاف التركي يؤكد سمتين رئيسيتين للرئيس إردوغان وسياساته، أبرزها أنه زعيم سياسي «براغماتي» يبحث عن ما يتصوره مصالح بلاده وفقاً لشروط اللحظة، وهو أيضاً يوظف كل الأوراق التي تحت يديه من دون أن يرتبط بتلك الأوراق ارتباطاً أبدياً، ومهما كان تسويق هذه الارتباطات في مراحل سابقة كانعكاس لمواقف مثالية أو دوافع أخلاقية، فهي قابلة للتراجع والتخلي عنها تماماً. والمواقف التركية المتقلبة تجاه فلسطين وإسرائيل خير شاهد.
الدلالة الثانية تتعلق بما يوصف بـ«معارضة الخارج»، المصرية والسورية والأويغورية الصينية، والتي تأكد أنها استنزفت دورها وباتت عبئاً ولم تعد رصيداً، وبالتالي فلم تعد ملائمة للسياسة الجديدة التي تستهدف فك العزلة، والعودة إلى سياسات حسن الجوار والبحث عن المصالح المشتركة مع القوى الإقليمية النافذة.
الدلالة الثالثة تتعلق بالتنظيم الدولي لـ«الإخوان»، والذي تأكد للقاصي والداني أنه مجرد تنظيم مُخترق يبيع نفسه لخدمة الآخرين، ويعيش دائماً في حماية قوة تستغله حيناً من الزمن لحسابات خاصة بها، ثم تلقي بهم إلى العراء. وأنَّ أعضاءه المتوهمين دوراً دينياً وسياسياً لخدمة الإنسانية، مستعدون بكل بساطة للتخلي عن كل معاني الوطنية بالنسبة لوطنهم الأم وللشعب الذي يتحدرون منه، ولا يجنون سوى العار والهزيمة.
الدلالة الرابعة تتعلق بغياب أي تأثير حقيقي لأى «معارضة» حتى ولو انطلقت من دوافع موضوعية إذا تخلت عن وطنها، وقبلت أن تكون مجرد أداة في يد قوى أخرى تسعى لجلب الخراب والدمار في بلدان تلك «المعارضة». وهي دلالة تضع هؤلاء في خانة الخيانة الوطنية المشهودة، وبما يحول دون قبول مجتمعاتهم لعودتهم من دون محاسبة صارمة. وما تطرحه بعض العناصر الإخوانية حول انتظار أو ترقب العفو المأمول من السلطات المصرية يبدو أبعد من المسافة بين الأرض والسماء.