خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل التحالف مع القوى العظمى الديمقراطية ما زال مجدياً؟

في أثناء الحرب الباردة كان خيار تحالف دولة نامية مع دول الغرب الديمقراطية خياراً سليماً. القادة الذين اختاروا لبلادهم طريق الاستقرار والتنمية، لا طريق الزعامة والعنتريات، ساروا فيه.
العامل الأساسي هنا لم يكن الديمقراطية، بل كانت المؤسسية والشفافية، التي جعلت دول الكتلة الغربية أكثر استقراراً، لا تتقلب تقلبات حادة بتغير الزعماء، كما قللت من تأثير العامل الشخصي المرتبط بالكيمياء الشخصية بين الزعماء. الدول الغربية أيضاً دول رأسمالية، ترى أن رخاء الفرد، لا تمدد الآيديولوجية، هو الدور المنوط بالحكومة، فلم تفرض خيارات آيديولوجية على مجتمعات ليست مؤهلة لها.
قيادات الدول النامية التي أرادت الطريق المختصر إلى الزعامة لم يكن هذا السبيل مناسباً لها، ولا متوافقاً مع إيقاع طموحاتها. كانت تريد أن تصعد إلى مصافّ قوة عظمى في لمح البصر، بكثير من الكلام والخطب، وكثير من الإجراءات التي تشبه هندسة قوالب البناء، لا حركة المجتمعات. في السياسة يسمّون هذا راديكالية. والراديكاليون للراديكاليين. اختار هذا النوع من قيادات الدول النامية التقارب مع الكتلة الشرقية، والدوران في الفلك السوفياتي.
التحالفات إذن لم تكن معبّرة عن تشابه في أنظمة الحكم، بقدر ما كانت معبّرة عن تشابه في المصلحة، وفي الهدف من علاقات الدول، والرؤية العامة للحكم النافع لشعبه. التغير التدريجي، التنمية، الرخاء.
الوضع الآن صار مختلفاً بسب تغيرات بدأت منذ التسعينات ووصلت الآن إلى ذروتها.
أولاً: الصراع الفكري بين اليسار واليمين انكفأ داخلياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. صار الراديكاليون في المجتمعات الغربية أكثر حرية في التعبير عن أفكارهم الراديكالية، من دون خوف من سمتهم بالشيوعية، أي من دون أن تواجه أفكارهم المقاومة الطبيعية الناتجة عن خدمتها لمصالح الكتلة الأخرى المعادية. لاحظ الفارق الضخم بين بيل كلينتون وباراك أوباما. مع أن الفارق بينهما ثماني سنوات لا أكثر. وهما الرئيسان المتتاليان من إفراز حزب واحد. ليس هذا شأناً داخلياً أميركياً، أو بمعنى أدق الجزء المتعلق منه بالداخل الأميركي يعني الأميركيين وحدهم، ما يعنينا هو تأثير ذلك على تحالفات أميركا الخارجية.
ثانياً: سيطرة اليسار على التعليم والإعلام، في ظل إحساس الراديكاليين بالحرية، خلقت واقعاً جديداً، ربطوا فيه بريستيج النشء والمراهقين بالتوجه اليساري؛ حيث العملية تسير بجناحين، ينشر أحدهما الفكرة الراديكالية ويضع التأطير النظري لها، ويتولى الآخر تحقير مَن يخالفها ووصفه بالجهل والتعصب. يمكننا أيضاً أن نقول إن أحدهما يروّج الفكرة للنخبة المتعلمة، والآخر يروّجها للعامة.
ثالثاً: وهو ما سيستمر معنا حتى نهاية المقال، طبيعة الديمقراطية العددية. حيث الترجيح لحزب على آخر يكفيه فارق 2% من الأصوات، نسبة ضئيلة تشكّل كل الفارق بين حيازة السلطة وفقدانها. حوَّل هذا الانتخابات إلى لعبة يمكن التخصص في مهاراتها، ومكَّن التنظيمات داخل المجموعات العرقية أو الدينية من تحويل مجموعاتهم إلى مجتمعات موظفة انتخابياً، ككتل لا كأفراد؛ تحويل الأصوات إلى بضاعة سياسية احتكارية.
حسناً، ما الضير في هذا؟
الضير أنه خلق فئة «النشطاء» الانتخابيين، التي تتمثل مصلحتها السياسية في عزل مجتمعها شعورياً عن البلد، وتحويل مطالبه الخاصة إلى ورقة مساومة في بلد ينال فيه الحزب السلطة بذلك الفارق الضئيل المشار إليه. هذه الفئة - أيضاً - تملك سلطة الدعاية والإعلام، البريستيج والإشانة. حين تنجح في المهمة، حين تُقدم للحزب الحاكم الدعم الثمين، تنال مطالب تلك الطوائف المرجّحة أولوية لا تتناسب مع حجمها الفعلي على الأرض، ولا حتى مساهمتها الفعلية في الإنتاج. لا كبشر، إنما كفكرة.
أستطيع أن أضرب على ذلك أمثلة كثيرة. أقربها إلينا سيطرة نشطاء الإسلامجية على الصوت القادم من المجتمعات المسلمة في الغرب. الإسلامجية قلة قليلة، لكنها قادرة على توفير نسبة من الصوت المرجِّح لأنها القوة الوحيدة المنظمة داخل المجتمع المسلم. وهي تحوّل هذا الصوت الانتخابي إلى نسبة تتحرك ككتلة خشبية في نفق من الخيارات، يبدأ من نقطة وينتهي في أخرى، يحددها النشطاء الإسلامجية ودوائر تدور في فلكهم. والنتيجة أن الأحزاب التي يعوزها التأييد الكافي لدى الناخب النمطي مستعدة لدفع ثمن باهظ لهذا الناخب الآخر.
لكن الأنكى من ذلك أن هذا الثمن الباهظ، غالباً، موجّه إلى دائرة اهتمامات خارجية، إلى أممية الإسلام السياسي، أي مصوّب نحونا أكثر ما هو موجّه إلى اهتمامات داخلية. الأخيرة يكتفي فيها بما يمنحه اليسار طبيعياً من سياسات داعمة للإعالة الاجتماعية.
هذه «الصفقة الجديدة كلياً» التي تبلورت مع أوباما تمثّل تطوراً تالياً لـ«الصفقة الجديدة» التي نجح بها فرانكلين روزفلت في وضع حزب الديمقراط في موقع أفضل انتخابياً قُبيل الحرب العالمية الثانية. الفارق بين صفقة أوباما وصفقة روزفلت أن صفقة الثلاثينات كانت داخلية، أما صفقات الألفية الثالثة فخارجية. فيها انتقل الصراع العالمي من جانبي جدار برلين إلى داخل جدران مراكز الاقتراع الأميركي. فصرنا نتعامل مع أميركتين متضادتين. ولم يعد لدى الدول المتضررة مَن تلجأ إليه دولياً. وتحتَّم علينا السؤال الذي عنونت به المقال: هل لا يزال مجدياً التحالف مع القوى العظمى الديمقراطية؟
الإجابة أن المجدي هو تذكّر السبب الذي بُنيت عليه التحالفات مع دول ديمقراطية - الاستقرار، والشفافية، والمصالح المشتركة. وبالتالي فالتقييم ينبغي أن يبدأ من سؤال: هل التحالفات مع الغرب لا تزال تحقق هذه الشروط الثلاثة؟
أسوأ إجابة هنا هي المنطلقة من هوى لا سياسي، سواء كان دافعه رد فعل انفعالياً بسبب تصرفات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في ملفات وجودية بالنسبة إلينا - التوسع الإيراني أو التركي أو سد النهضة. أو كان دافعه انهزاماً نفسياً ثقافياً أمام كلمة «الديمقراطية». إنْ نحّينا هذين المنطلقين الأساسيين نستطيع أن ننظر بتجرد إلى أحداث ما مضى من الألفية الثالثة، والقوى الصاعدة في العالم. وأن نختبر موضع مصالحنا.