د. خالد بن نايف الهباس
كاتب سعودي
TT

أميركا والخصوصية الإقليمية: الدور الإيراني أنموذجاً

ثمة حديث مستمر في الأوساط السياسية حول المشهد السياسي الإقليمي، لا سيما في ظل إدارة أميركية جديدة في البيت الأبيض، واضح أنها تتبنى نهجاً خارجياً مختلفاً عن الإدارة السابقة فيما يتعلق بالتعاطي مع الأزمات والقضايا الإقليمية. والواقع أن هذا التعاطي المختلف لا يقتصر على الشأن الإقليمي بل يشمل أيضاً الدور الأميركي على الساحة الدولية، وهو ما سماه الرئيس بايدن «الدبلوماسية أولاً» و«عودة أميركا»، وجميعهما يأتيان بديلاً لسياسة ترمب المعروفة «أميركا أولاً».
لكن ما يتوجب الإشارة إليه في هذا السياق، هو أن «الأقاليم الجغرافية» لها دينامياتها الخاصة، التي عادةً ما يكون لها تأثير كبير على مجمل التطورات السياسية فيها، بما في ذلك كيفية تعاطي القوى الدولية معها، وكيفية صوغ سياساتها نحوها، والتي يتوجب أخذها في عين الاعتبار. ولعل منطقة الشرق الأوسط إحدى أكثر مناطق العالم «خصوصية»، من ناحية ثقافية وديموغرافية وتاريخية وجيوستراتيجية واقتصادية؛ بمعنى آخر، هي منطقة لها طابعها الخاص فيما يتعلق بأنماط التعاون أو الصراع، وما شهدته هذه المنطقة من حروب وصراعات وأزمات، وما شهدته أيضاً من أحلاف وأطر للتعاون. ولعلنا نَسوق هنا، على سبيل المثال، إيران ودورها المزعزع للاستقرار في المنطقة، خصوصاً في ظل الحراك الدولي الدائر حالياً حول ملفها النووي.
فمنذ الثورة الإيرانية قبل أكثر من أربعة عقود وإيران تنتهج سياسة خارجية توسعية، أسهمت بشكل كبير في زيادة حدة التأزم الإقليمي، وجعلت أزمات المنطقة أكثر تعقيداً، بل دعمت الإرهاب، وخلقت كثيراً من الميليشيات المسلحة خارج إطار وسلطة الدولة التي توجد فيها، حيث أصبحت هذه الميليشيات أذرعاً توظفها طهران لتنفيذ أجندتها التوسعية والتخريبية في المنطقة وخارجها. وأصبح ذلك كله أوراق ضغط تستخدمها طهران في مفاوضاتها مع المجتمع الدولي.
ورغم تأكيد الحكومات الغربية، خصوصاً الإدارة الأميركية، المتكرر حول الدور الإيراني المزعزع للاستقرار، لم نَرَ أي تحرك فاعل للحد من ذلك، بل أصبح الدور الإيراني أكثر خطورة في الوقت الحاضر مما كان عليه في السابق. فلم تنجح سياسة «الاحتواء المزدوج» التي تبناها الرئيس كلينتون، ولا سياسة «محور الشر والدولة المارقة» بالنسبة للرئيس جورج بوش الابن، ولا سياسة «اليد الممدودة أو إشراك الخصوم» بالنسبة للرئيس أوباما، ولا سياسة «الضغوط القصوى» للرئيس ترمب، في حمل إيران على تغيير سياساتها في المنطقة. ونعتقد أن الرئيس بايدن وسياسته القائمة على «الدبلوماسية أولاً» لن تضع حداً للعبث الإيراني، ولن تقلم أظافر إيران في المنطقة.
بل إن ما يدور حالياً بين واشنطن وطهران يمكن وصفه بلعبة «شد الحبال»، والهدف منها تحديد السقف الذي يمكن وفقاً له البدء بالمفاوضات. فإيران ترفع السقف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، مستلهمة في ذلك تجربتها السابقة في المفاوضات حول ملفها النووي مع إدارة الرئيس أوباما، والاتفاق الذي تم التوصل إليه في منتصف عام 2015، وما حققته من مكاسب جراء ذلك. ويمكن هنا فهم زيادة تخصيب اليورانيوم، وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، والإيعاز لميليشياتها في المنطقة للقيام ببعض الأعمال العدائية في مكان أو آخر، ووقف العمل بالبروتوكول الإضافي، بما في ذلك تصريح المرشد الأعلى مؤخراً حول إمكانية زيادة إيران لنسبة التخصيب إلى 60%.
فيما تسعى الإدارة الأميركية من جانبها للاحتفاظ بأوراق الضغط التي ورثتها من عهد الرئيس ترمب، ليس من باب الإيمان بها، ولكن لرفع سقف المفاوضات بالنسبة إليها، رغم الرسائل الإيجابية التي تبعث بها واشنطن من خلال حلفائها الأوروبيين تجاه إيران، وبعض القرارات التي تصبّ في خانة تشجيع إيران على تبني أسلوب أكثر انفتاحاً على المفاوضات، كما في سحبها عبر مجلس الأمن طلب إدارة الرئيس ترمب إعادة فرض كل العقوبات الأممية على إيران، ورفع القيود على بعض الدبلوماسيين الإيرانيين المعينين لدى الأمم المتحدة.
وبالنسبة إلى الدول العربية المعنية بشكل أكبر بهذه التطورات فإن الأمر الأهم يدور حول إلى أي مدى ستذهب واشنطن في الربط بين المفاوضات المتوقعة مع إيران وبين دورها الإقليمي وبرنامج صواريخها الباليستية. الدول العربية المعنية مُحقّة في مطلبها ضرورة إشراكها في المفاوضات الدولية المتوقعة مع إيران، وأهمية تلافي الخطأ الذي وقعت فيه إدارة الرئيس أوباما بتجاهل هذه الدول، التي هي المتضرر الأكبر من سياسات إيران التدخلية وتسليحها للميليشيات التابعة لها في المنطقة. كما أن حصول إيران على السلاح النووي، فيما لو تحقق ذلك، سيجرّ المنطقة إلى سباق نووي يدفع القوى الإقليمية، العربية وغير العربية، إلى السير في هذا الطريق لتحقيق «التوازن» أو «الردع» النووي، خصوصاً في ظل هشاشة الاتفاق النووي عام 2015.
إيران لم تكن لتستطيع تعزيز نفوذها الإقليمي لولا استغلالها تقاطعات المشهد الإقليمي وتداخل ملفاته، وتباين معطياته المذهبية والسياسية والجيوستراتيجية، خصوصاً الفراغ الأمني والسيولة السياسية التي أصبحت من العلامات الفارقة للمنطقة في العقدين الأخيرين بشكل أوضح. والقوى الإقليمية والدولية دائماً ما تتبنى سياسات معينة في المنطقة، تهدف في المقام الأول إلى تحقيق مصالحها في ظل مشهد إقليمي معقَد ومركَب، دون مراعاة لمقتضيات الاستقرار الإقليمي وخصوصياته، حتى وإن رأى البعض أن حالة عدم الاستقرار هذه تجعل القوى الأجنبية، الإقليمية والدولية، أكثر قدرة على تحقيق مصالحها، بغضّ النظر عن مصالح دول المنطقة العربية.
هذا يقودنا للقول بأن أي إغفال من إدارة الرئيس بايدن لمشاغل وهموم الدول العربية تجاه الدور الإيراني، وتجاه القضايا الإقليمية الأخرى، سيجعل سياستها تجاه المنطقة عاجزة عن حلحلة مشكلاتها بشكل فاعل، بل سيجعلها ليست سوى مجرد تكرار لما سبقها من استراتيجيات، وإنْ بتكتيك جديد، لأن لأزمات المنطقة وقضاياها «حتميتها السياسية» النابعة من «خصوصيتها الإقليمية»، التي إن أغفلتها استراتيجيات القوى الكبرى فإن دوامة «التأزم الإقليمي» ستستمر، وسيظل المشهد الإقليمي يكرر نفسه.

- الأمين العام المساعد للشؤون السياسية بجامعة الدول العربية