إميل أمين
كاتب مصري
TT

استراتيجية الرياض وسردية العمران

خلال مشاركته الأيام القليلة الماضية في مؤتمر مبادرة الاستثمار، كشف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عن بعض ملامح «استراتيجية الرياض» الساعية إلى تحويل عاصمة المملكة إلى أحد أكبر اقتصادات المدن حول العالم.
بدايةً، نحن أمام مصطلحين لا يمكن فهم ما يجري في المملكة من غير التوقف عندهما، وأحدهما متصل بالآخر: الأول هو الاستراتيجية، والآخر مفهوم اقتصاد المدن.
باختصار غير مخلٍّ، الاستراتيجية هي علم التخطيط، وتعكس الخطط المحددة مسبقاً لتحقيق هدف معين على المدى البعيد، في ضوء الإمكانيات المتاحة، أو التي يمكن الحصول عليها.
هنا تطفو على السطح «رؤية 2030» التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، كنقلة نوعية، تليق بمستقبل الوطن والمواطنين، وللوصول إليها يتم تحديد عدد من الأهداف المرحلية التي يؤدي إنجازها إلى إحداث تغييرات جادة ومهمة.
ماذا عن فكرة اقتصاد المدن؟
نحن أمام مفهوم عالمي جديد يجمع بين المقومات الاقتصادية للمدن الصناعية والمناطق الاقتصادية الخاصة، لتشكّل مدناً حضارية متكاملة، ويرتكز اقتصاد كل مدينة على تجمعات اقتصادية غالباً ما تكون عنقودية.
حديث ولي العهد الأمير محمد عن تحويل الرياض إلى مدينة اقتصادية عالمية، يأتي في إطار سردية العمران التي بدأها قبل خمسة عقود الأمير –وقتها– سلمان بن عبد العزيز، على الأرض، عبر البنية التحتية، وتشجيع النمو البشري، ما خلق مجتمعاً عمرانياً تضاعف حسب نظرية مالتوس الاقتصادية، أي بمعدلات هندسية لا عددية، ما جعل الانطلاق نحو المستقبل، أمراً ممكناً، لا سيما أن النجاح عملية تراكمية رأسية من جيل إلى جيل، تمضي الشعلة وتستنير الأمم وتتقدم وتترقى الشعوب.
يعنُّ للقارئ أن يتساءل عن نماذج المدن الاقتصادية ذات الشأن والحيثية حول العالم. وهنا نشير إلى اثنتين منها؛ واحدة في الصين وهي العاصمة بكين التي تضم نحو 91 جامعة ووداي السيليكون الصيني، ذاك الذي غيَّر الأوضاع الاقتصادية وبدّل الأحوال التجارية حول العالم، بل جعل الصين تهدد الولايات المتحدة بسلاح الردع النقدي لا النووي، وتستمد بكين أهميتها من وجود 52 شركة من أكبر 500 شركة على مستوى العالم، تقع مكاتبها الرئيسية هناك، وتُعرف ببلد العلم والعمل.
المدينة الأخرى نجدها وراء المحيط الأطلنطي، شيكاغو، في ولاية إلينوي، وهي ثالث كبرى المدن الأميركية بعد نيويورك ولوس أنجليس، ويسكنها نحو 2.7 مليون نسمة، وناتجها المحلي الإجمالي يبلغ 630 مليار دولار.
هل تمتلك الرياض ما يؤهلها لأن تضحى بالفعل مدينة اقتصادية عالمية؟
الذين تابعوا تصريحات الأمير محمد، أدركوا بالفعل أنها كذلك، فما يقارب من 50% من الاقتصاد غير النفطي يجري عبر مساراتها، كما أن تكلفة خلق الوظائف بها أقل 30% من بقية مدن المملكة، فيما تطوير البني التحتية والعقارية بها ينقص 29% عن نظيرتها في أرجاء المدن السعودية كافة.
سردية العمران في الرياض تتضافر فيها طبيعة الجغرافيا مع آثار التاريخ، لا سيما أن بها آثاراً تاريخية بعضها مسجل في منظمة «اليونيسكو»، ما يفيد بأن فرص تنمية وترقية الرياض تحوي في طياتها الكثير من الأوراق، الصناعية والتجارية، السياحية والاقتصادية، الأمر الذي يقفز بها من فوق حاجز العوائد الريعية التقليدية للنفط الخام، والذي يشكل النسبة المطلقة للناتج القومي السعودي حتى الساعة.
ولعل حديث العمران الاستراتيجي من حول الرياض، يقودنا إلى فكرة دعم النمو السكاني في العاصمة السعودية ليبلغ قرابة عشرين مليون نسمة سنة 2030، وهنا يتجلى التخطيط الاستشرافي المتميز، ذلك أن تلك الملايين من البشر هي القادرة على خلق طلبٍ عالٍ على الخدمات كما الحال في طوكيو ونيويورك ولندن، ومنها قطاعات الصحة والتعليم وغيرها من الاحتياجات الإنسانية.
ضمن استراتيجية الرياض الخلاقة، ترتفع راية الدفاع عن البيئة، وهذا أمر مثير جداً للانتباه، ويعني أن القابضين على جمر المستقبل في المملكة، لديهم وعي إيكولوجي حقيقي، ولهذا فإن مشروعات جبارة على صعيد البيئة تجري بها المقادير على الأرض، منها حديقة رئيسية بحجم حديقة سنترال بارك الشهيرة في نيويورك ثلاث مرات.
الرياض الجديدة ستشجِّر ملايين الأشجار، إلى جانب مئات من الحدائق النوعية، ما سيخفض درجة الحرارة ما بين 1 و4 درجات مئوية، وحال إضافة عدد من المحميات الطبيعية الضخمة القائمة على أطراف الرياض إلى سجل العمل الكبير، تضحى لدينا مدينة صديقة للبيئة.
المضامين التفصيلية التي ستعلن عن الاستراتيجية عمّا قريب، تحمل حُكماً الكثير من المبادرات السارة، فسويداء القلب من استراتيجية الرياض ليس الحجر بل البشر؛ خدمةً، وترقيةً، وتنميةً، ورفاهيةً، لعموم المواطنين، عبر الأفكار الإبداعية التي تستقطب المستثمرين ورؤوس الأموال.
الخلاصة... طريق التنوير السعودي يستضيء يوماً تلو الآخر.