د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

الانتخابات الفلسطينية... طموحات وعقبات

كحجر أُلقي في بحيرة من الماء الآسن، فتحركت تيارات كانت صامتة. هكذا يمكن وصف قرار الرئيس محمود عباس إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، بصورة متتابعة بعد الاتفاق بين حركتي «فتح» و«حماس». الأمر إجمالاً يضع الفلسطينيين أمام استحقاق كبير ومهم في ظل بيئة دولية وإقليمية ينقلب حالها منذ عشر سنوات، ولم يستقر وضعها بعد. وفي التطورات الأميركية وإدارة جديدة لديها رؤية ليست مثالية تماماً، ولكنها أفضل مما كان لدى إدارة ترمب، وهو ما يحفز إلى اتخاذ قرارات جريئة لم يفُت أوانها بعد، ومن بينها الانتخابات وإعادة تأسيس شرعية النظام السياسي الفلسطيني، وسد الثغرات التي زادت رقعتها في العقدين الماضيين.
الطموحات الفلسطينية من إجراء الانتخابات متشعبة وضرورية. الجميع يدرك أن استمرار الأمور على ما هي عليه ليس في صالح أحد، بما في ذلك الذين يتصورون أن الانتخابات قد تقضي على مصالحهم المباشرة، سواء المناصب أو النفوذ. البقاء في المربع ذاته ضد التاريخ وضد المستقبل معاً. لقد آن الأوان لأن يخطو الجميع خطوات كبرى وليس مجرد خطوة واحدة. واقع الأمر الانتخابات تفتح الباب أمام الكثير من تلك الخطوات الكبرى إن توافقت الإرادات المتحكمة في القرار الفلسطيني على جعل الانتخابات محطة نحو المستقبل وليس مجرد إعادة الواقع بحلة تبدو جديدة. بالقطع هناك مؤثرات خارجية تضع العديد من العقبات، لكن تظل الإرادة الفلسطينية هي الأساس وهي العنصر الحاكم في تشكيل المستقبل، وفي توظيف كل فرصة ممكنة لصالح الحقوق القومية للشعب الفلسطيني.
الانتخابات فرصة لكي تعيد فتح النظر في انقساماتها الذاتية، من يبتغي الفوز بأغلبية موثوقة عليه أن يجمع شتات نفسه أولاً. الحوار مع كل الذين تم إقصاؤهم من حركة فتح سواء الكوادر الوسيطة أو القيادات الفتحاوية مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. «حماس» بدورها عليها مراجعة العديد من مواقفها وارتباطاتها، فالتوجه نحو مصالحة شاملة شرط لازم لإنجاح الانتخابات من ناحية، ولإثبات مسؤوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية من منظور كلي، يراعي القدرات والإمكانات وتدخلات بعض القوى الإقليمية وتراجع مكانة القضية الفلسطينية نتيجة الانقسام والتمسك بحكم غزة وكأنها مشروع دويلة على وشك الظهور، وليست جزءاً أصيلاً من دولة فلسطينية يحلم بها كل فلسطيني متمسك بحقوقه إلى النهاية.
الطموحات كبيرة، وهي مشروعة، لكن الأمر لا يخلو من عقبات، فهناك من يرفض المشاركة في الانتخابات، ويشكك في جدواها، ويتوقع ذرائع شتى فلسطينية وإسرائيلية قد تؤدي إلى تأجيلها. والأحق أن يبذل هؤلاء الرافضون جهداً لإنجاح الانتخابات وليس إثارة الغبار عليها. فالعودة إلى إرادة المواطنين شيء يستحق الجهد والتضحية. نظرياً كل الاحتمالات واردة، سواء من ناحية النجاح والفشل، أما الارتكان للفشل مسبقاً فهو أمر في ظل الظروف الفلسطينية يجب إلغاؤه من أي اختيارات، خاصة أن هناك عقبات قانونية مهمة تحتاج إلى بحث معمق وإلى مخارج غير مسبوقة من حيث الفكرة ومن حيث التطبيق.
أحد أبرز الإشكالات القانونية ما يتعلق بطبيعة هذه الانتخابات نفسها، وهي التي ستحدد مدى شموليتها لكل المناطق الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس المحتلة من جهة، كما ستحدد مدى شمول الناخبين الفلسطينيين في الشتات. والمعروف أن انتخابات 2005 الرئاسية و2006 التشريعية التي فازت فيها «حماس» بأغلبية 73 نائباً من إجمالي 123، تمت أساساً باعتبارها أحد عناصر الفترة الانتقالية التي تمهد لتشكيل منظومة سياسية وتشريعية فلسطينية تكون مؤهلة لإدارة الدولة حال الاتفاق عليها. السؤال المطروح ما هي مرجعية الانتخابات المنتظرة هذا العام، هل هي اتفاقات أوسلو التي تم تجاوزها واقعياً، أم هي مرجعية الدولة التي أشار إليها القيادي الفتحاوي عزام الأحمد، والتي يراها متوافقة مع التعديل الذي تم على أساسه اعتبار الرئيس محمود عباس رئيساً لفلسطين (تحت الاحتلال) وليس رئيساً للسلطة فقط؟ وهي رؤية قانونية تعني من وجهة نظر أصحابها أن قرار الانتخابات ليس مرهوناً بموافقة أو رفض قوة الاحتلال، بل هي حق مشروع لكيان، لكنه تحت الاحتلال.
من الناحية العملية فإن مرجعية الدولة تحت الاحتلال وإن منحت سيادة في تحديد مسار الانتخابات، لكنها لا تمنح عملياً القدرة على إجرائها من دون توافق ما مع تل أبيب، سواء صراحة أو ضمناً، أو وفقاً لتفاهمات تضمنها قوى كبرى دولياً وإقليمياً وتقبل بها إسرائيل. والعنصر الأهم هنا يتعلق بالقدس وحق الفلسطينيين المقدسيين في المشاركة في هذه الانتخابات، فمع تمسك الإسرائيليين بأن القدس الموحدة عاصمة أبدية لهم، وعدم نية إدارة بايدن المجادلة أو التراجع عن هذا الأمر، فمن المشكوك فيه أن تقبل إسرائيل إجراء انتخابات فلسطينية في القدس، سواء المعروفة بقدس 1 أو قدس 2 وفقاً لاتفاقات أوسلو؛ إذ في حالة السماح بهذه الانتخابات وفقاً للمنطق الإسرائيلي سيعني التشكيك المباشر في شمولية القدس عاصمة لإسرائيل.
النداءات والمطالبات الفلسطينية للدول الأوروبية والولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لتقبل بالانتخابات الفلسطينية في القدس لن تجد صدى عملياً إلا بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية وتشكيل حكومة جديدة، وحسب رئاستها والأحزاب المشاركة فيها سيكون هناك قرار يصعب توقعه مبكراً. وإن كان الأمر الغالب هو الرفض. هنا يجب التفكير في كيفية مواجهة هذا الاحتمال بأفكار جريئة وعملية في آنٍ واحد.
المهم لدى قطاع كبير من الفلسطينيين أن تُجرى الانتخابات بعد تأجيل دام 15 عاماً، ولكن لدى البعض الآخر، فإن الأهم هو أن تُجرى بأفضل طريقة ممكنة، ليس من الناحية الإجرائية وحسب، بل من ناحية احترام نتائجها والتعامل معها باعتبارها إرادة شعبية. عملياً فإن كلا الأمرين متشابكان، وسيكونان محور اجتماعات القاهرة المقرر لها وفقاً لرئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه الأسبوع الأول من فبراير (شباط). والسؤال المطروح هل يمكن أن يتم توافق بين أكبر حركتيْن فلسطينيتيْن على كل ما يتعلق بإجراء الانتخابات بحرية ونزاهة قبل أن تكتمل خطوات المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية ويكون للسلطة الوطنية وجود فعلى في قطاع غزة؟ المعنى هنا يتعلق بأيهما أولاً، الانتخابات بكل ضوابطها المعروفة أم المصالحة بكل مضامينها السياسية والعملية؟ حل هذه الإشكالية يمثل خطوة مهمة ليس فقط لإنجاح الانتخابات وحسب، بل استعادة القضية الفلسطينية لمكانتها كمدخل ضروري ولا غنى لأي صيغة من صيغ الاستقرار الإقليمي عربياً وشرق أوسطياً.
المخاوف التي يبديها البعض من فوز «حماس» بأغلبية تعيد ذكريات عام 2006، وتمنح فرصة أخرى لإسرائيل للتنصل من التزاماتها والهروب من استحقاقات المفاوضات، مرهونة بالمصالحة الشاملة والتقاسم الوظيفي بين كل المكونات الفلسطينية. من دون ذلك قد تتحول الفرصة إلى خطر.