حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

فقط دماء ضحايا 4 أغسطس خط أحمر!

حالة من السوريالية تسود لبنان منذ العاشر من الشهر الجاري، إثر الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزراء. اتسعت التفاعلات على المستويات السياسية والقضائية. رؤساء الحكومات السابقون توجسوا من أن تطالهم المساءلة فتلطوا وراء الحصانات وسعوا إلى تحويل مسؤولية شخصية إلى مسؤولية طائفية، وانتفض «حزب الله» متحدثاً عن «المعايير» (...) معبراً عن قلقه مما يمكن أن يكون وراء التحقيق، وتحولوا إلى قضاة ومراجع قضائية فوق القاضي، مع تهافت على شدِّ العصب الطائفي، الحصن الحصين لأركان المنظومة المتحكمة، وورقتهم الفضلى للاستمرار فوق الانهيارات والموت، فليُفرمل التحقيق في الجريمة ضد الإنسانية، جريمة 4 أغسطس (آب) التي هزّت العالم ولم تهز كرسي مسؤول لبناني واحد!
بعد تلك الجريمة ابتعدت القوى السياسية عن الصورة، وصمتت حيال مسار التحقيق، بعدما جرى بضغطٍ من «حزب الله» وعون إقفال باب الاستعانة بلجنة تحقيق دولية، رغم الافتقار إلى إمكانيات تحليل المعطيات في مثل هذه الجرائم. والكل كان مطمئناً إلى أن السقف هو البحث عن «كبش فداء»! توافقوا على رأي «حزب الله» بأن لا دور إسرائيلياً، رغم أن نتنياهو كان قد وضع المرفأ من ضمن الأهداف الإسرائيلية! وقفزوا فوق احتمال وجود أسلحة للدويلة رغم الحفرة الهائلة، ولم يتوقفوا عند كيفية وصول شحنة الموت وتخزينها، حتى إن جبران باسيل قال من البداية وكرره: ما يهم هو أن نعرف من المسؤول عن التفجير؟
قلب المشهد قرار تاريخي سطّره القاضي فادي صوان هو الأول بتاريخ لبنان، تمثل بالادعاء على الرئيس دياب والوزراء السابقين خليل وزعيتر وفنيانوس، بجرم «الإهمال والتقصير والتسبب في وفاة وإيذاء مئات الأشخاص»، وكذلك الادعاء على رئيس جهاز أمن الدولة اللواء صليبا الذي تُرك بسند إقامة! وأثيرت الزوابع السياسية والطائفية التي في ظلّها كان تمنعهم عن الخضوع للتحقيق كأنهم فوق المحاسبة وفوق القانون، لكن القاضي استخدم صلاحياته وجدد الاستدعاء لاستجوابهم بشبهات ارتكابهم جرماً جزائياً.
خطوة القاضي صوان تلت خفة من المجلس النيابي الذي تقاعس عن مباشرة الإجراءات ورفض الرسالة القضائية، التي بُنيت على مضمون «الإفادات الاستنطاقية التي أكدت وجود شبهات جدية تتعلق بمسؤولية المدعى عليهم لناحية ثبوت عدم قيامهم بالإجراءات الواجبة إثر تلقيهم مراسلات خطية تحذرهم من الخطر». وذكرت رؤساء الحكومات من 2013، ووزراء الأشغال والمال والعدل وتمت تسميتهم وهم 12 وزيراً.
لا شك أن هناك جديداً في تضافر عناصر رئيسية قطعت مع ممارسات مستمرة منذ 3 عقود، كانت تقيد خلالها الجرائم دوماً ضد مجهول. لقد وصل لبنان بفعل فاعل إلى الحضيض، فالانهيارات على كل الصعد هي نتيجة نهب البلد وإفقاره ومن ثم اختطاف الدولة من جانب محور الممانعة، فكان أن تسارع تهدم القطاعات الإنتاجية، بحيث بات نحو 60 في المائة من اللبنانيين على حافة الفقر، ونصفهم في فقر مدقع لا يحصلّون وجبة غذاء في اليوم! رغم ذلك ما من متهم وما من مسؤول، مع أنهم يتراشقون بتهم الفساد!
كانت الذروة في ظلّ تحكم هذه المافيا، وقوع جريمة الحرب التي نجم عنها إبادة جماعية وتدمير جزء من العاصمة، وتهجير نحو 300 ألف ممن دمرت منازلهم أو تضررت بشدة. وبعد أكثر من 130 يوماً تتواصل الوفيات من بين المصابين ليتجاوز العدد المائتين، كما هناك أكثر من ألف معوق! وتظهر للناس كم هو معيب التعامل الرسمي مع الجريمة وتداعياتها. هنا تزامن التفجير مع زمن «ثورة تشرين» سيلعب دوراً متزايداً في غير مصلحة منظومة الحكم. لقد أدخلت الثورة ثقافة جديدة عرّت منظومة الفساد وسحبت الثقة الشعبية من البرلمان وفرضت لغة مختلفة. وباتت المساءلة والمحاسبة على جدول أعمال البلد، وكذلك مطلب إعادة تكوين السلطة... فساهم هذا الوضع في استعادة نقابة المحامين لتعود إلى دورها كحارسٍ للحرية، وشهدت الانتخابات الطلابية في الجامعات هزيمة كل القوى الطائفية المرتبطة بالسلطة أمام التيار العلماني الذي استمد زخمه من الثورة، وقلب أساتذة الجامعة الوطنية «ظهر المجن» لأحزاب الحكم باسم الطوائف، ليفوز الجو الاستقلالي بـ40 في المائة من المقاعد... هذا المناخ دخل البيوت، وهو موجود في القضاء، وأمام اللبنانيين نادي القضاة نموذج مضيء.
لقد حجزت السلطات المتعاقبة قانون استقلالية القضاء، وأقامت المحاكم الخاصة واحتكر البرلمان تفسير الدستور والقوانين رغم افتقاره الدائم إلى مشرعين جادين، فيما المجلس الدستوري مؤسسة شكلية بدليل أن لا دور له في حسم صراع الصلاحيات الراهن في تأليف الحكومة. ومنذ قانون العفو عن جرائم الحرب يمارسون السلطة من خارج الدستور وعبر البدع، مع التهديد الدائم إما القبول بما تتوافق عليه المافيا أو الحرب الأهلية! فقبل فترة يعلن النائب إيلي الفرزلي (السوري الهوى): إما عفو مالي عام أو حرب أهلية (...) وإثر إسقاط «التحقيق الجنائي» يعلن سمير حمود الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف: التدقيق المالي الجنائي قد يهدر الدماء على الطرقات (...) ما يعني أنه ممنوع المحاسبة ومرفوض الاقتصاص من المرتكبين! والحقيقة قبل «ثورة تشرين» اعتاد الناس هذا المنحى، وإلا كيف نفسر مثلاً فرض «حزب الله» شغوراً 30 شهراً لفرض مرشحه رئيساً للجمهورية!
أزعجهم القرار الكبير لقاضي التحقيق العدلي فحرضوا سياسياً وطائفياً وادعوا بأن القرار استنسابي، معتبرين الادعاء على مسؤول سياسي تسييساً للملف، إلى محاولة تصنيف القاضي ومحاولة النيل من استقلاليته وكفاءته، والتمترس وراء الحصانات والخطوط الحمراء الممنوع على القضاء أن يمس بها! وفي السياق صوروا دياب بالمستضعف يتم استفراده، وأثاروا ما اعتبروه انتقاء في الادعاء على زعيتر.
لقد أشارت الأدلة إلى شبهة أساسية حول دور رئيس الحكومة الذي تبلغ شفهياً ثم خطياً بالخطر على العاصمة وحياة الناس، ولم يتحمل مسؤوليته وهو رئيس السلطة المولجة حماية الأرواح، فمن واجب العدالة أن تعلم من منعه؟ فيتحدد المستفيد... أما الوزير زعيتر فكان الشخص الذي وقف وراء طلب تفريغ شحنة الموت وتخزينها، فيما نجله محامي الشركة التي ادعت أن لها ديناً على صاحب الباخرة لحجزها، واختفت المطالبة بعد الحجز ليتبين أن لا أساس للادعاء. بالتأكيد لدى هذا الوزير الكثير الذي ينير التحقيق كما لدى آخرين يقال إن الملفات بشأنهم جاهزة، وهنا الاستماع ضرورة لرئيس الجمهورية الذي قال إنه «كان يعلم»!
هاجسهم كسر القرار القضائي الذي أحدث انعطافة في مسألة الحصانة، وفتح الباب على حق الناس بالعدالة، وهي تتحقق بإسقاط الحصانات والأعراف التي رسّخت صورة وجود فئة فوق القانون. وفتح القرار القضائي معركة تصحيح نظام العدالة بما يتيح بدء عصر المساءلة والمحاسبة. إنها معركة اللبنانيين الذين قالوا فقط الضحايا رسموا بدمهم الخط الأحمر وهو الخط الذي لا يسمو عليه موقع.